قضايا وآراء

وحدّثت الأرض أخبارها

عادل راشد
لوحة بمسجد سليمان بن خالد بن الوليد باسمه وأسماء 27 صحابيا استشهدوا بفتح ديار بكر ومقابرهم بفناء المسجد
لوحة بمسجد سليمان بن خالد بن الوليد باسمه وأسماء 27 صحابيا استشهدوا بفتح ديار بكر ومقابرهم بفناء المسجد
الدنيا هادئة والحياة هانئة والناس في النوم يغطُّون، فقد نامت العيون وهدأت الجفون وكلهم في فلك أحلامهم يسبحون، وتعددت للغد نواياهم واختلفت سرائرهم وطواياهم، وإذ هم على اختلاف الحالات وبدون مقدمات زُلزِلت الأرض في جنوب تركيا زلزالها واستجاب شمال سوريا فاهتز فوراً لها، وكأن القيامة في جزء من الأرض قد قامت، فالأرض هنالك قد مُدت وألقت ما فيها وتخلت وأذنت لربها وحُقت، وها هي البيوت هُدمت والأشلاء بُعثرت والدماء انتثرت، والصرخات تعالت والآهات توالت، وفرَّق الزلزال بين الأخ وأخيه والأب وبنيه والرضيع وأمه التي تؤويه، والناس في الشوارع يهرولون كأنهم إلى نُصُب يوفضون، وتراهم من شدة الخطب حيارى كأنهم سكارى وما هم بسكارى، ولكن هول الزلزال شديد وارتداداته لا تتوقف فهي تُبدئ وتُعيد.

والأمر لا يعدو لمحة من لمحات يوم القيامة، فلا السماء انفطرت ولا انشقت ولا الكواكب انتثرت ولا النجوم انكدرت ولا البحار فُجّرت ولا القبور بُعثرت ولا الشمس كُوّرت ولا الجبال دُكت ولا نُسفت، لا شيء من ذلك حدث بل فقط زُلزلت الأرض في جزء يسير منها زلزالها ولم تُخرج أثقالها وسأل الإنسان -وحُق له أن يسأل- وقال ما لها؟ كأنه لا يعلم أن ربها أوحى لها، وما كان لها أو لغيرها في الوجود أن تفعل شيئاً من تلقاء نفسها، وهي طائعة لا تعصي ربها وقد عُرضت عليها الأمانة فأشفقت منها وأبت حملها وحَمَلها الإنسان وها هو يسأل ما لها؟ هنالك كأني سمعتها تُحدِثُ أخبارها. نعم سمعتها كأن لم أسمعها من قبل.

سمعتها تقول ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا.. لقد ذهبوا في تفسير ما حدث لي أو مِنّي كل مذهب، والأمر أن الله الواحد الأحد الذي يُفاخر البعض بالكفر به والإلحاد في أسمائه قد أمَرني -وأمرُهُ لو تعلمون بين الكاف والنون- أن أهتز في جزء صغير هِزةً يسيرة، وهو سبحانه الذي قال لي وللسماء ائتيا طوعاً أو كرهاً فأتينا طائعين، فما كان لي أن أعصي له أمراً.

سمعتها تتعجب من هؤلاء المتفيقهين يُبَغِّضون دين الله للناس، إذ يقولون إن ما حدث عقوبة لأهل هذه الأماكن، وتقول ويكأني لو تزلزلت عقوبةً لفعلت في أماكن أخرى يكثر فيها الشرك والإلحاد والمظالم والمآثم والمخازي.

لو فعلتها عقوبةً لابتلعت من يفاخر بالآثام، ومن يحرق المصاحف ومن يسيء لسيد الأنام عليه الصلاة والسلام ومن يسفك الدماء. لو فعلتها عقوبةً لزلزلت عروش الحكام الظالمين الذين يخالفون عن أمر ربهم ويسومون شعوبهم سوء العذاب.

لو فعلتها عقوبةً لابتلعت هؤلاء الذين يُسمون أنفسهم معارضين وبدل أن يأخذوا الدروس والعظات ويمدوا أيديهم بالمساعدة والعطاء إذا كل همّهم أن ينصبوا صناديق الانتخاب في بلدهم المنكوب على الجماجم والأشلاء، وتكون الدعاية بالافتراءات ويكون التصويت ليس بِمداد الحبر، بل بهذه الدماء.

قلت أيها الأرض حنانيك وأنا أصغي إليكِ، قالت أبلغ هؤلاء أن هناك شيئا اسمه الابتلاء وهو للصالحين وللصابرين اصطفاء واجتباء.

أفَكنتُ معاقبةً تلك الطفلة التي خرجت من تحت الأنقاض وهي في غيبوبة تردد حزينةً "صار لي يوم ما صليت"!!

أم تلك المرأة التي لم توافق على خروجها من تحت الأنقاض والموت فوق رأسها إلا أن يعطوها غطاء رأسها!!

أم هذا الذي يردد القرآن والأذكار لا يتوقف وهو غائب عن الوعي!! أم ذلك الذي يوصي أولاده بالصلاة والصلاح ثم يموتون أمام عينيه، ويظل الموصي ويموت أولاده فيفترش الصبر والتسليم ويلتحف الرضا واليقين!!

أهؤلاء أعاقبهم بزلزالي؟

ما لكم كيف تحكمون أو كيف تفهمون!!!

قل لهم اقرأوا شيئا عن تاريخ أهل هذه الولايات وما لهم في الماضي والحاضر من مآثر وقِيم وأخلاق وجهاد.

قل لهم إن كهرمان مرعش مركز الزلزال تعني مرعش البطلة أو القاهرة، وأن الإسلام دخلها عام 637 م على يد خالد بن الوليد سيف الله المسلول، وأن أهلها تمسكوا بهذا الدين العظيم على مر العصور، وأنه لمَّا احتلها الفرنسيون سنة 1919 لم يستطيعوا البقاء فيها سنة واحدة لمقاومة أهلها.

أخبرهم عن رضوان خوجة الذي صعد المنبر يوم الجمعة وقال للمصلين لن أخطب الجمعة وعلم فرنسا يرفرف بدل علم تركيا، وانطلق بالمصلين ليقاوم المحتلين، ولا تنس أن تخبرهم عن سوتشوا إمام.

قل لهم إن هذه صفته أو عمله (بائع اللبن) فلا أحد يعرف اسمه (مثله كمثل صاحب النَقَب) الذي أذاق الفرنسيين الصليبيين ألوان العذاب من المقاومة المسلحة، التي بدأها في 31 تشرين الأول/ أكتوبر 1919 وأكرمه الله بالشهادة بعد أن ذاق طعم النصر والتحرير بعامين بسبب حريق نشب لانفجار أحد المدافع.

أبلغهم عن بائع اللبن وأخبر الأتراك شكري، إذ وفاء لهذا البطل الشهيد أطلقوا اسمه على الجامعة؛ جامعة بائع اللبن وميدان بائع اللبن.

وإذ أنا مستغرق فيما تقول الأرض وبي ذهول ووجوم، قالت لي بصوت مسموع: أفِقْ أو استفق لتعي ما تسمع وأنا أحدثك أخباري.

قل لهم إن دياربكر اسمها ديار الصحابة، وقد فُتحت في عهد الفاروق عمر بن الخطاب عام 639 ميلادية، بعد فتح مكة بعشر سنين، وأن فتحها كان بحملة بألف من الصحابة بقيادة عياض بن غنم، واستشهد فيها سبعة وعشرون من صحابة رسول الله على رأسهم سليمان بن خالد بن الوليد، وقبورهم بأسمائهم هناك بجوار مسجد سليمان بن خالد بن الوليد.

حدّثهم عن شانلي أورفة التي فتحها عياض بن غنم صلحاً واحتلها الصليبيون سنة 1098 م ليسترجعها عماد الدين زنكي سنه 1144م، وهي أرض الأنبياء عاش فيها سيدنا إبراهيم أعواما وقيل إنه ولد فيها ولذلك هناك المسجد الجامع (جامع خليل الرحمن).

وكذلك سيدنا يعقوب وسيدنا أيوب وغيرهما ممن عاش بها قليلاً أو كثيراً.

وما زالت الأرض تحدثني وأنا صامت أستمع.

قالت لا تنس أن تخبرهم أن شرناق فيها جبل الجودي الذي رست عليه سفينة نوح، فنجاة أهل الإيمان في كل زمان بها، وعلى ذكر أهل الإيمان لا تنس أن طرسوس فيها أهل الكهف وقبورهم.

وما إن أخذت الأرض تحدثني عن بني رمضان أضنة وتاريخهم فقلت توقفي عن أضنة، فقد أضناني الصمت وأريد أن أحدثهم وخاصة أني زرت كل هذه الأماكن وشاهدت المشاهد ورأيت قبور الصحابة الفاتحين وخالطت أهالي هذه الولايات فما رأيت أفضل منهم ولا أكرم.

وسأخبرهم عن ملاطيا إذ زرتها فوجدت عامة نسائها محتشمات ونسبة المحجبات فيها أكثر بكثير من المتبرجات، ودخلت مساجدها في جميع الصلوات وأنا أصلي العصر حسبتها صلاة الجمعة من شدة الزحام، أمّا تجارهم في سماحتهم وصدقهم فقل ما شئت فلن تتجاوز الحقيقة قيد أنملة.

وأستأذنك أن أحدثهم عن حلب الشهباء أقدم مدن التاريخ وأعظمها حضارة وأكثرها نضارة، فقد كانت قبل الميلاد بستة آلاف عام ومرت بالكثير من الأحداث والحضارات حتى أشرقت عليها شمس الإسلام وفتحها أبو عبيدة بن الجراح وخالد بن الوليد سنة 637م لتكون أعظم منارات الإسلام. وكانت كذلك ثالث أكبر مدينة في الدولة العثمانية بعد إسطنبول والقاهرة، ثم أخيراً تعرضت لما تعلمون من كل معتد أثيم ومن كل عتل زنيم وتواطؤ الشرق والغرب على تمزيقها فأصابها ما أصابها.

وهنا توقفت وقلت إن كثرة الحديث يُنسي بعضه بعضاً، فلنؤجل الحديث عن باقي الولايات إلى لقاء آت.

قالت لك هذا ولكن بقي أن أخبرك بحديث إفك يروج له بعض المرجفين في المدينة يتلقفه مرضى القلوب ويبتلعه بعض الطيبين، قلت وما ذاك؟

قالت يروجون للتفرقة في المساعدات بين الأتراك وإخوانهم السوريين، واستطردت الأرض قائلةً: ألا يعلم هؤلاء أن غازي عنتاب فيها ٤٦٢.٦٩٧ سورياً، وأن هاتاي فيها ٤٣٣.٨٧٥ سورياً، وأن شانلي أورفة فيها ٤٣٠.١٢٤ سوريا، وأن أضنة فيها ٢٥٦.٤٣٥ سورياً، وأن كهرمان مرعش فيها ٩٥.٩٣٨ سورياً، وأن كيلس فيها ١٠٧.٤٦٨ سورياً بنسبة تجاوزت الأربعين في المئة. وكل الولايات المنكوبة لا تخلو من الأحبة السوريين، وأنه بعد نزوح كثير من الأتراك إلى أقاربهم في ولايات أخرى مثل سكاريا وأنقرة وإسطنبول قد يقترب عدد السوريين من عدد الأتراك أو يقل قليلاً فلمن تذهب المساعدات؟

ثم ألم يشاهد هؤلاء رئيس "ihh"، أكبر هيئة إغاثة تركية، وهو يتحدث من الشمال السوري ويركز عمله الإغاثي هناك؟ قد تحدث أخطاء من هول الكارثة واتساع رقعة الأضرار، ولكن قل لهم اتركوا السوريين وما نزل بساحتهم فقد اجتمعت عليهم المصائب الثلاث؛ البأساء والضراء ثم زُلزلوا زلزالاً شديداً، فإن لم يكن عندكم كلمة طيبة فاصمتوا ولا تروجوا لحديث إفك وتشعلوا نار فتنة تخرج من قلوبكم المريضة.

أتل على هؤلاء قول الله تعالى: "إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ".

إنها محنة كبرى ولكن حتماً سيكشف الله الغمَّة ولن يغلب العسر يُسرَين والله أرحم بعباده منهم بأنفسهم.
التعليقات (1)
أبو فهمي
الخميس، 02-03-2023 05:44 ص
مشكور جدا للتذكير """ بالتاريخ """ الذي لا تعرف الأكثرية شيئا عنه وابتلاء الله جل جلاله هو رحمة لانعرفها فهو العليم بها ونحن عباده علينا """" شكره وحمده """" مع كل نفس يخرج من صدورنا فقد خلقنا """""""""""""" لنعبده ونحمده """""""""""""".

خبر عاجل