«في الحروب لا يستطيع أيّ جندي أن يقول بدقة كم في دفتره من عملية قتل. لكن في زمن الأباتشي والأجهزة المحمولة، كل شيء فعلتُه خلال انتدابين إلى ساحة المعارك (أفغانستان) مسجل وموثق زمنيا. في مقدوري أن أقول بدقة كم من مقاتلي العدو (
طالبان) قتلت. كان أمرا حيويا لي ألَّا أشعر بالعار من ذلك الرقم. فمن الأشياء الكثيرة التي تعلمتها في الجيش أن تحمّلَ المسؤولية أمر في غاية الأهمية. إذن، رقمي: 25. هذا ليس مبعث ارتياح لي، لكنه في المقابل رقم لا يُشعرني بالخجل. في ذروة حرارة المعركة وغبارها، لم أفكر في أولئك الناس كبشر. لو نظرت إليهم كبشر فلن يكون بمقدورك أن تؤذيهم. هؤلاء كانوا قطع شطرنج أُخرجت من اللعبة. أشرار جرى التخلص منهم قبل أن يقتلوا الأخيار».
الفقرة السابقة ترجمة لكلام الأمير
هاري، نجل ملك بريطانيا تشارلز الثالث، في مذكراته «الاحتياطي» التي أثارت ضجة كبيرة (الفصل 57 الصفحة 256).
يمضي الأمير شارحا الكثير من تفاصيل المعارك التي شارك فيها. المواقف واللحظات التي تسبق القتال أو تتخلله. أصناف القنابل والذخيرة وطرق استعمالها.. إلخ. ثم يتحدث عن العودة إلى الثكنة بعد القتال «من دون أيّ شعور بالذنب». يوضح: «أنت تُدرَّب على الإيمان بأن ما تفعله هو الصواب وبألَّا تترك لوم الذات أو الشعور بالذنب يتسلل إلى روحك». يضيف أن الجنود وقادتهم يلتقون بعد القتال في غرفة خاصة ليعاينوا تسجيلات المعارك وتفاصيلها فيشاهد كل واحد ماذا فعل وكيف.
ويختم هذا الباب بالقول إن ساعة الرحيل من أفغانستان كانت مفعمة بالمشاعر و«بالندم، لكنه ندم صحي. ندمت على الأشياء التي لم أستطع إنجازها وعلى اليانكيز (الأمريكيين) والبريتس (البريطانيين) الذين لم أستطع مساعدتهم. باختصار: ندمت أن عليَّ أن أغادر».
لو أن أميرا من شيوخ الخليج العرب الذين درسوا في الكليات الحربية البريطانية تبجّح في مذكرات وُزّعت منها ملايين النسخ بأنه قتل بيده 25 بريطانيا أو أمريكيا، كان العالم سيُعلّق له المشانق.
لو قال أحد إنه لا يعتبر الجنود البريطانيين أو الأمريكيين بشرا بل مجرد قطع شطرنج وجب التخلص منها، لَــنسيَ العالم كل همومه ومصائبه وتفرَّغ للقصاص منه بكل الطرق.
لكن لا بواكي للأفغان. لا شيء يشي بأن اعتراف الأمير هاري بقتل 25، حتى لو كانوا مقاتلين من طالبان، سيسفر عن أيّ غضب أو تبعات. لا في الشرق ولا في الغرب. من بريطانيا إلى أفغانستان، مرورا بما بينهما، الصمت مطبق عدا بعض الهمهمات العابرة سرعان مع غمرتها باقي تفاصيل المذكرات عن العراك العائلي والإفراط في تناول الكحول وعلاقة «الاحتياطي» بالمخدرات وغير ذلك.
هل سيتحرك أحدهم لرفع دعوى قضائية في لاهاي؟ أمر مستبعد، فالفتى ابن الملوك والأمراء وحفيدهم في مقابل «أشرار يستحقون القتل». ليست المشكلة في القتل فقط، فمن الأمريكيين وجنود حلف شمال الأطلسي مَن فعل أكثر من القتل بالرصاص.
المشكلة في التباهي بالقتل. وهنا يتقاطع الشخصي مع العام: حالة هاري الذاتية المضطربة مع موقف القانون والسياسة.
من حيث العلاقات العامة والضجة الإعلامية وما يترتب عنها من مبيعات ومداخيل، هي فعلا «ضربة معلّم» كما يقال. الذين يستعملون هاري يعصرونه مثلما عصروا والدته الراحلة وسيمتصونه إلى آخر قطرة، مثلما امتصوا والدته. لقد جمعوا في «الاحتياطي» كل البهارات الضرورية للقصة، الشأن العام والخاص، لتتحقق الضربة القاضية. أسرار العائلة الملكية، الأميرة ديانا، العلاقات الإنسانية، المخدرات، الكحول، الحرب والقتل. لا أحد من مصلحته أن ينصحه بأن التباهي بالقتل مسيء أخلاقيا وربما قانونيا. ولا أحد نصحه بإبقاء واقعة شقيقه الأكبر، الذي ألقمه لكمة، طي الكتمان لأنها قضية عائلية وشخصية تسيء للعائلة ولا حاجة للغوغاء لمعرفتها.
لا أعرف هل هناك جدوى من معاتبة هاري. فهو في نهاية المطاف طفل كبير يعيش عقدة الشعور بالاضطهاد وتطوّقه الأزمات والخيبات مشفوعة برغبة جامحة في الانتقام. ثم وقع في فخ تماسيح النشر والعلاقات العامة فاستغلت إحباطه وجوعه المادي لتجني من سذاجته ورغبته في الانتقام أموالا تفوق ما سيجني هو.
كل الحروب في كل الأزمان تتخللها تجاوزات وانتهاكات، لكن قواعد وأعراف أيضا. عدا عن الامتناع عن قتل العزّل والإساءة للمساجين وملاحقة الجرحى والنساء والأطفال، هناك عُرف عدم التبجح بالقتل لأن المفروض أن الإنسان (الجندي) لا يختار الحرب بل يُدفع إليها دفعا. وعليه من الأدب والإنسانية ألا يتباهى المرء، حتى لو كان جنديا، بشيء فُرض عليه.
الاحتلال الأمريكي البريطاني لأفغانستان حافل بجرائم قصف مواكب الأعراس ومداهمة مجالس العزاء وقتل المدنيين بالشبهة وفي الحواجز الأمنية والتنكيل بالسجناء. كل الأطراف المعنية بالأمر اعترفت بوقوع أخطاء بعضها يرقى إلى جرائم حرب.. الجنود والضباط، وزارات الدفاع في دول التحالف الدولي وعائلات القتلى والجرحى.
فمَن بعد كل هذا الإجرام سيُصدّق أن الـ25 الذين يفتخر هاري بأنهم يزيّنون دفتره كلهم من طالبان؟ ثم، لو كان التخلص من مقاتلي طالبان فعلا بكل هذه السهولة والأرقام، فلماذا هرب الجميع، وآخرهم الأمريكيون، بعد عشرين سنة، تاركين أفغانستان فريسة لطالبان؟ لماذا لم يقل أحد لهاري إن كلامه هذا مسيء له ويوسّع هوة الأحقاد بين الشعوب والأديان والثقافات؟ لماذا لم يُنبَّه إلى أن كلامه خيانة لعائلته وللكثير من الأشياء؟ لو فكّر قليلا لانتبه بسرعة إلى أن تباهيه بالتخلص من «قطع الشطرنج» يتعارض حتى مع فلسفة والده القائمة على تشجيع التقارب بين الشعوب والثقافات.
هل قلت يفكر؟! القالب الذي وُضع فيه «الطفل الكبير» يمنع التفكير. الآلة التي طوّقته في زمن السلفي والسوشال ميديا أخطر من آلات الحروب التقليدية. لا يهمها أيٌّ من الكلام السالف ولا مكان له في دائرة حساباتها. مصلحتها مختلفة وأقوى من كل المصالح. وحتما ليست مصلحة هاري الذي سيخرج من هذه المذكرات قليل كرامة. عزاؤه أن الكرامة في هذا الزمن لا تبيع ولا تنفخ الأرصدة المصرفية.
(القدس العربي)