من النّكسات التي أصابت العمل للإسلام عند كثيرٍ من
العلماء والدّعاة؛ الانعزال عن النّاس والتقوقع على الذّات داخل
المسجد تحت عنوان
وجوب تقدير
العلم والرّفع من شأنه، لأنّ "العلم يؤتى ولا يأتي".
أصل العبارة وسياقها
وهذه العبارة التي تعودُ إلى الإمام مالك بن أنس رضي
الله عنه انتزعت من سياقها، وصار التّعامل معها بنقيض ما جاءت به من سياق
ومناسبة.
فقد رُوي عن الإمام مالك رحمه الله أنه قال: "دخلتُ
على هارون الرشيد؛ فقال لي: يا أبا عبد الله ينبغي أن تختلف إلينا، حتى يسمع
صبيانُنا منك الموطأ، قال: أعزّ الله أمير المؤمنين، إنّ العلم منكم خرج، فإن
أعززتموه عزّ، وإن ذللتموه ذلّ، والعلمُ يؤتى ولا يأتي، فقال: صدقت، اخرجوا إلى
المسجد حتى تسمعوا مع الناس".
من خفّ مرضهم فهم الذين يذهبون إلى الطّبيب في عيادته وهؤلاء هم الذين يقصدون الدّعاة في المساجد.
أمّا من اشتدّ مرضهم فعلى الطبيب أن يهرع إليهم، وهؤلاء هم الذين عصفت بهم الشّبهات والأمراض التي حالت بينهم وبين المساجد فوجب على الدّعاة أن ينطلقوا إليهم
وفي هذه الحادثة التي ساقها ابن كثير في البداية
والنّهاية ما يدلّ على اختلاف السّياق الذي قيلت فيه عن السّياق الذي تستخدم فيه
في أيامنا هذه.
فقد قالها الإمام مالك معترضا على طلب الخليفة أن يأتي
إلى قصره ليعلّم أبناءه في درس خاص، فرأى الإمام بأنّ هذا مشهد من مشاهد إهانة
العلم لا ينبغي القبول به وتمريره.
بل في السّياق ما يدلّ على أنّ العلم يأتي إلى النّاس،
حيث أصرّ الإمام مالك أن يكون العلم في المسجد في ذلك الزّمان الذي كان المسجد
فيه قبلة النّاس وموطن استراحتهم.
والعلم والدّعوة إلى الله تعالى علاجٌ لأمراض النّاس
الإيمانيّة والفكريّة والسلوكيّة، ويفترض بالدّاعية أن يكون هو الطبيب المداوي.
وقد عرّج على ذلك الأستاذ مصطفى السّباعي رحمه الله
تعالى، حيث كان يبيّن في بعض محاضراته أنّ النّاس مرضى والنّاس أطباؤهم، فمن خفّ
مرضهم فهم الذين يذهبون إلى الطّبيب في عيادته وهؤلاء هم الذين يقصدون الدّعاة في
المساجد.
أمّا من اشتدّ مرضهم فعلى الطبيب أن يهرع إليهم، وهؤلاء
هم الذين عصفت بهم الشّبهات والأمراض التي حالت بينهم وبين المساجد فوجب على
الدّعاة أن ينطلقوا إليهم.
كلامٌ نفيس للبشير الإبراهيمي في الاستخدام البائس
للعبارة
وقد بيّن العلّامة البشير الإبراهيمي في كلامٍ نفيسٍ أثر
هذا التقوقع والانعزال عن النّاس -استنادا إلى هذه القاعدة- على تفشّي أمراض الفكر
والعقيدة حيث يقول:
"إنّ علماء القرون المتأخرة ركبتهم عادةٌ من الزهو
الكاذب والدعوى الفارغة، فجرّتهم إلى آداب خصوصية، منها أنّهم يلزمون بيوتهم أو
مساجدهم كما يلزم التّاجر متجره، وينتظرون أن يأتيهم الناس فيعلّموهم، فإذا لم
يأتهم أحد تسخّطوا على الزّمان وعلى النّاس، ويتوكّؤون في ذلك على كلمة إن صدقت
في زمانٍ فإنّها لا تصدق في كلّ زمان وهي: "إنّ العلم يؤتى ولا يأتي"..
تصدق هذه الكلمة في علمٍ غير علم الدّين، وإنّما تصدق بالنّسبة إليه في جيلٍ عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أمّا في زمننا وما قبله بقرون فإن التّعليم والإرشاد والتذكير أصبح بابا من أبواب الجهاد، والجهاد لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنّما يكون في الميادين
وإنّما تصدق هذه الكلمة في علمٍ غير علم الدّين، وإنّما
تصدق بالنّسبة إليه في جيلٍ عرف قيمة العلم فهو يسعى إليه، أمّا في زمننا وما
قبله بقرون فإن التّعليم والإرشاد والتذكير أصبح بابا من أبواب الجهاد، والجهاد
لا يكون في البيوت وزوايا المساجد، وإنّما يكون في الميادين حيث يلتقي العدوّ
بالعدوّ كفاحا.
وقد قال لي بعض هؤلاء وأنا أحاوره في هذا النوع من الجهاد،
وأعتب عليه تقصيره فيه: إنّ هذه الكلمة قالها مالك للرشيد، فقلت له: إنّ هذا قياس
مع الفارق في الزمان والعالم والمتعلم.
أمّا زمانك هذا؛ فإنّ هذه الخلّة منك ومن مشائخك
ومشائخهم أدّت بالإسلام إلى الضياع وبالمسلمين إلى الهلاك.
فالشّبهات التي ترِدُ على العوام لا تجد من يطردها عن
عقولهم ما دام القسيسون والأحبار أقربَ إليهم منكم، وأكثر اختلاطا بهم منكم،
والأقاليم الإفرنجية تغزو كل يوم أبنائي وأبناءك بفتنة لا يبقى معها إيمان ولا
إصلاح.
ففي هذا الزمن يجب عليّ وعليك وعلى أفراد هذا الصّنف أن
نتَجَنَّد لدفع العوادي عن الإسلام والمسلمين، حتى يأتينا الناس، فإنهم لا
يأتوننا وقد انصرفوا عنّا وليسوا براجعين.
وإذا كان المرابطون في الثّغور يقفون أنفسهم لصدّ الجنود
العدوّة المغيرة على الأوطان الإسلامية؛ فإنّ وظيفة العلماء المسلمين أن يقفوا
أنفسهم لصدّ المعاني العدوّة المغيرة على الإسلام وعقائده وأحكامه، وهي أفتك من
الجنود، لأنها خفيّة المَسَارِب، غرّارة الظّواهر، سهلة المداخل إلى النفوس، تأتي
في صورة الضّيف فلا تلبث أن تطرد ربّ الدار.
لقد قال العلّامة الإبراهيمي رحمه الله في هذا الكلام
قبل عشرات السّنوات؛ لكنّه يصدق على واقعنا اليوم بصورة ربّما تفوق صدقه على
الواقع الذي قيل فيه؛ فإنّ المعركة شرسة والجنود عاكفون في ثكناتهم لأنّ "العلم
يؤتى ولا يأتي".
تذكير المُذكِّرين
والغريب أنّ الدّعاة والعلماء المنزوين في المساجد لا
يكفّون عن تذكيرِنا بأنّ الإمام البنّا كان داعية في المقاهي لا المساجد، وأنّه
كان يجوب المدن والبلدات يعيش مع النّاس كلّ النّاس.
مراجعات حقيقيّة من مؤسسات العلماء وأفرادهم لمدى انخراط العلماء والدّعاة في صفوف الشّباب، وحقيقة الوصول إليهم في الواقع والعالم الافتراضي على حدٍ سواء ووضع الخطط والبرامج الحقيقيّة لتحقيق الوصول الفعّال والتّواصل المؤثّر
ولا يكفّون في دروسهم المسجديّة عن استحضار صورة المحدّث
الأكبر بدر الدّين الحسني في دمشق وهو يقصد مع بداية رمضان دور الدّعارة ليكلّم
البغايا؛ مذكّرا إيّاهنّ بالله تعالى بكلّ تلطّفٍ ومقدّما لهنّ ما يكفيهنّ من
المال في شهر رمضان لينصرفن عما هن فيه.
وكذلك لا تكاد تجدُ أحدا منهم إلّا ويحدّثك عن قصّة ذلك
العالم الدّاعية الذي قصد الملهى اللّيلي وصعد المسرح ليخاطبَ جمهورا لا يأتيه
إلى المسجد، والتي صاغها الشّيخ علي الطّنطاوي رحمه الله تعالى في مقالةٍ بديعة
تحت عنوان "شيخٌ في المرقص".
إنّ الشباب اليوم بعد الأزمات التي عصفت بهم وتفرّقوا في
بلاد شتّى يحتاجون إلى علماء ودعاة يصلون إليهم، ويعيشون معهم سواءً في الواقع
الحقيقي أو الواقع الافتراضي.
وهذا يحتاج إلى مراجعات حقيقيّة من مؤسسات العلماء
وأفرادهم لمدى انخراط العلماء والدّعاة في صفوف الشّباب، وحقيقة الوصول إليهم في
الواقع والعالم الافتراضي على حدٍ سواء ووضع الخطط والبرامج الحقيقيّة لتحقيق
الوصول الفعّال والتّواصل المؤثّر.
twitter.com/muhammadkhm