كتاب عربي 21

ابني.. محمد أبو الغيط.. القادم إلى الضياء

سيف الدين عبد الفتاح
قضى أبو الغيط آخر أيامه مفعما بالأمل- حسابه على تويتر
قضى أبو الغيط آخر أيامه مفعما بالأمل- حسابه على تويتر
فُجعت الإنسانية والأمة المصرية بوفاة الشاب النابه محمد أبو الغيط، الصحفي والطبيب وقبل كل ذلك "الإنسان". وهنا لا أبالغ فموت الشاب المصري النابه محمد أبو الغيط فجيعة كبرى، لا تخفى على أحد من جراء الإحساس بالمرارة الذي نبت في حلق كل من يعرفه أو سمع به أو قرأ له، فقد كان إنسانا فاضلا قبل أن يكون صحفيا ناجحا، وقد ترك أثرا كبيرا، سيعيش له وبه ويخلده.

إن موت محمد أبو الغيط في هذا الوقت رغم أنه كان متوقعا إلا أنه جاء صادما، فأبو الغيط الذي يعاني من مرض السرطان منذ أكثر من عام تراجعت صحته ودخل في أزمات كثيرة خلال تلك الفترة، ومع ذلك فعندما التقيته في لندن مطلع العام الجاري وجدته يعيش الأمل، ويبني الأحلام ويقاتل محاولا الحفاظ على حياة شبه طبيعية مع أسرته، وبقلمه الذي لم يتوقف إلا نادرا، وبقبوله تجربة العلاجات المختلفة أملا في تحقيق نتيجة سواء له أو لغيره من المرضى، فهو كان دائما منشغلا بغيره، لا يدخر جهدا في سبيل إنقاذهم بقدر ما يتوفر له من طاقة وقدرة وقوة.
عندما أفكر فيه أجدني أتخيل إنسان يناير والثمانية عشر يوما التي عاشتها مصر في ظل تلك الثورة، فقد تجسدا في أبو الغيط الذي بقي كما هو ولم يتغير عن ذلك.. يؤمن بالعدل والحرية والكرامة للجميع، يعمل جاهدا لنصرة الحق بغض النظر عن انتظار العائد أو حتى التأثر بجدوى ما يفعله، لم يتسرب إليه الإحباط أبدا، ولم يتراجع عن أحلامه في أن يرى بلده حرا كريما يسود فيه العدل والقانون

رحل عنا محمد أبو الغيط وبقيت سيرته الحسنة بيننا، ومحبته الصافية في قلوبنا، وكتاباته المتميزة لدينا.

عرفت محمد أبو الغيط والتقيته مرات، وقد أدهشني كثيرا بشخصيته قبل كتابته، فلا أزال أذكر حرصي وحرصه على اللقاء كلما سنحت الفرصة والأثر الذي يتركه عندي وعند كل من يلقاه في أي من لقاءاتنا العديدة معا، ومنها ذلك اللقاء الذي جرى بيننا منذ ما يزيد عن 10سنوات، عندما كنت في مناسبة عائلية بصعيد مصر ووجدته يستأذن من صاحب المناسبة للقائي، وكان وقتها ما يزال يفكر بين الطب والصحافة، إلا أن شغفه بخدمة الناس والتعبير عنهم كان لا يحده حدودا، ووقتها علمت أنه خلق من أجل الناس أينما يكون، وأنه لن ينفصل عنهم أو يتأخر عن نجدتهم بكل ما يستطيع. فعندما أفكر فيه أجدني أتخيل إنسان يناير والثمانية عشر يوما التي عاشتها مصر في ظل تلك الثورة، فقد تجسدا في أبو الغيط الذي بقي كما هو ولم يتغير عن ذلك.. يؤمن بالعدل والحرية والكرامة للجميع، يعمل جاهدا لنصرة الحق بغض النظر عن انتظار العائد أو حتى التأثر بجدوى ما يفعله، لم يتسرب إليه الإحباط أبدا، ولم يتراجع عن أحلامه في أن يرى بلده حرا كريما يسود فيه العدل والقانون.

إن الكتابة عن إنسان بعد موته أشد ألما عنها في حياته، رغم أنني ترددت كثيرا في أن أكتب عنه من قبل، ولكن كان يحدوني الأمل في أن أبو الغيط سينجو من هذه الأزمة، وأن كتابتي عنه في ذلك الوقت كانت تضعف أملي هذا، ولكن مضى أمر الله، ونحن نرضى به وندعو له بالرحمة والسكينة وسكنى الصالحين. فأبو الغيط صاحب مقال "الفقراء أولا يا ولاد الكلب" والذي يتحدث فيه عن أبطال ثورة يناير الحقيقيين، يستعرض شهداء يناير من ملح وطين هذا البلد، من الفقراء الذين قضوا نحبهم من أجل يناير، ظل كما هو يعبر عن الفقراء ويحلم لهم ويسعى لتحقيق أحلامهم ويدافع عنهم، ويستفيد من تطور رؤاه ومهنيته وأسلوبه لينفتح على أفق جديدة في الكتابة والنشر ولكن من أجلهم، فاهتمامه بالناس والفقراء تحديدا لم ينقطع، واهتمامه ومحبته لهم لم توهن، وانشغاله بهم لم يلن. هكذا قضى محمد أبو الغيط نحبه، وكتاباته الأولى والأخيرة شاهدة له.

إن تأمل موضوعات اهتمامه ومناطق انشغاله مثير للدهشة، فهو قد اهتم في تحقيقه الاستقصائي المتلفز "المستخدم الأخير" بالصراع في اليمن ورصد الدورين السعودي والإماراتي، في تسريب أسلحة حديثة إلى أطراف الصراع، نال عنه الميدالية الذهبية في جائزة ريكاردو أورتيغا للصحافة المرئية والمسموعة المرتبطة بالأمم المتحدة، واهتم بالسودان، وكتب عن التمويل السري لـ"قوات الدعم السريع" السودانية (مؤلفة من مليشيات الجنجويد)، ونال عنه جائزة فيتيسوف الروسية للصحافة، عن فئة المساهمة في صناعة السلام، وحصل على جائزة مؤسسة هيكل للصحافة العربية، عن تحقيقاته حول قضايا اليمن وسوريا.

وقد ساهم أبو الغيط خلال مسيرته بتحقيقات استقصائية جماعية عدة، أبرزها التحقيق مع مؤسسة مكافحة الجريمة المنظمة والفساد بمشاركة 163 صحافيا حول العالم، لجمع وتعريب وتحرير ونشر التسريبات السويسرية (Swiss Leaks) التي كشفت تفاصيل الحسابات الخارجية لشخصيات بارزة، بينهم رؤساء وملوك حول العالم، وهي إن تكشف فإنما تكشف عن ندرة معدن هذا الرجل وساحة ومساحة اهتمامه.

في قرانا وفي ريفنا كانوا يطلقون على الشاب النابه النابغ الطيب القانع المبتسم المفعم بالأمل المحب للناس والمحبة الفياضة للناس له؛ الذي يسير بين الناس وفي الناس كالنسمة، وقد عاش في خضم المشاكل والعقبات وربما أصابه المرض العضال الذي لا يُرجى منه شفاء ولا يُحتمل برؤه، ومع ذلك لم يفارقه الأمل ولم تغادر شفتيه البسمة رغم الألم الكامن والأنين الدفين؛ وهو مع كل ذلك مهموم بغيره وحاله؛ يعيش هموم الناس وآلامهم.. كان يسمونه أنه "ابن موت"؛ يا الله.. كأنما أرادوا أن يقولوا إنه ليس كالبشر، بل هو من جنس الملائكة إنه لا يليق به مقام البشر في دنيا وأن مقامه هو" في مقعد صدق عند مليك مقتدر"؛ مقامه ليس في دنيانا. هو وفق تسمية أخرى له "ابن آخرة".. ابني الحبيب محمد أنتم وديعة الله التي استردها "كامل الأوصاف"، أقم حيث اختارك الله أمينا آمنا.

في نفسي دار الحوار متذكرا مشروع التغريبة الذي قام عليه المحامي الصامد يستفسر ممن تغربوا عن مصر الوطن؛ مصر الحبيبة بعد أن صارت حبيسة، وكان السؤال متى يمكنكم أن تعودوا إلى حضن الوطن مصر؟ وكانت الإجابات والاستجابات عن مصر التي تعود حتى نعود، وكانت إجابة الابن محمد التي لخصت كل شيء: "لن أعود قريباً بأي حال. خرجت بشكل طبيعي من المطار وهذا يعني أني حتى وقتها على الأقل لم يكن لدي أي مشكلة أمنية، لكنه ذلك الرعب المبهم في مصر: لا أعرف الآن لو عدت هل سأمر بشكل طبيعي أم لا؟.. والخوف ليس اعتقالي فقط، بل يمكن ببساطة أن أمر داخلاً، ثم يُمنع سفري للخارج مرة أخرى، مما سيقضي على عملي ولا يوجد لدي أي فرص في مصر حالياً.. سأعود فقط حين تحدث انفراجة سياسية واضحة، سواء بتغير الرئيس الحالي، أو بانفتاح المجال السياسي بشكل ما، خروج المعتقلين وعودة هامش من الديمقراطية".

كان مجال دهشتي لماذا لم يعد محمد لمصر ولماذا لا يُدفن فيها وفي أحضانها؟ لماذا لا يستجيب هؤلاء الى آخر كلماته أنه يتوق للعودة إلى أحضان مصر الوطن الذي يقف على بواباته حرس حدود يمنعون الداخل إليها لو أراد ويمنعون الخارج منها لو أراد؛ طغمة تقف على أبواب مصر تقرر، وتسمح وتمنع؛ جعلت من مواطنيتها والجنسية لها عقوبة، يمنعوننا من أوراقنا الثبوتية ثم يعايروننا بأننا نقطن في بلاد أخرى.. يا هؤلاء من توزعون صكوك الوطنية الزائفة مدعين أنكم حراس بوابات مصر الأخيار المانعين للمخربين الأشرار؛ يا من تعطون صكوك التوبة والغفران وتنعمون بها على يتراءى لكم أنتم أولى بالمعايرة والخزي؛ مصر التي تاق محمد حيا أن يعيش في أحضانها وعلى أرضها رفض هؤلاء أن يكون فيها وعليها..

مات محمد غريبا في لندن ليدفن فيها وعلى أرض غير مصر، لم يفكر أحدهم أن يُسمح له بأن يدفن في ترابها؛ عقوبة إضافية من زبانيتها.. ماذا يخيفكم بعد موته؟

مات محمد غريبا في لندن ليدفن فيها وعلى أرض غير مصر، لم يفكر أحدهم أن يُسمح له بأن يدفن في ترابها؛ عقوبة إضافية من زبانيتها.. ماذا يخيفكم بعد موته؟ أيا وطني نحن الغرباء عن وطننا صار من الصعب علينا أن نتحدث عن حق الحياة في أوطاننا بعد أن اغتصبها الأوغاد الذين ادعوا حراسة حدودها، فقط قد نطالب بحق الموت أن نُدفن في أرضها؛ لا نطلب بحق الحياة ولكن نطالب بحق الموت والدفن في أرضها. هل تصل هذه الرسالة.. نريد أن نُدفن في أرضنا؟.. يا لهؤلاء الأوغاد الذين منعونا من حق الحياة فيها ويمنعوننا بعد انقضاء الأجل أن نموت فيها وندفن في أرضها.

بقيت لمحمد أبو الغيط أمنية وحيدة وهي الإفراج عن والد زوجته، الأستاذ الدكتور السيد حسن شهاب (المعتقل منذ أيلول/ سبتمبر 2013م) والحاصل على البراءة فيما اتُهم به، ولا أجد أبلغ مما كتبه رحمه الله عنه قائلا: "أرجو منكم جميعاً، بحق من كان لي عنده لحظة ود، أن يساعدنا في ألا تُفجع إسراء في زوجها ووالدها ووالدتها (توفيت قبل عامين بالسرطان أيضا)، أماكن كثيرة خالية على مائدة عيدها، فليعد لها واحد على الأقل".. أم أن هؤلاء صاروا يتاجرون حتى في الموت وبالموت؟!".

twitter.com/Saif_abdelfatah
التعليقات (0)