"لقد
هاجموني بكل الصور واتهموني بأنني متشدد إسلامي، ثم بأنني متشدد أمريكي، ثم بأنني
متشدد مع الـCIA، ثم متشدد مع حماس، وتم اتهامي بمشكلات
جنسية! إنهم لم يتركوا شيئاً لتشويه سمعتي، لكني أثق بوعي الشعوب وتفهمها لهذه
اللعبة، وحتى الصينيون وغير المسلمين في داخل البلاد يفهمون ويعرفون مكانتي،
وسيظهر الحق إن شاء الله".. هكذا قال لي البروفيسور أنور إبراهيم في أول
حوار له مع صحافة عربية أجريته لمجلة المجتمع الكويتية في كانون الثاني/ يناير
2014م، بعد ثماني سنوات من خروجه من السجن.. وها هو الحق الذي أعرب عن ثقته في
ظهوره قد ظهر بعد ربع قرن من التنكيل به؛ بإعلان فوزه بالمرتبة الأولى في
الانتخابات البرلمانية التي أجريت السبت (18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2022م).
وبينما
لم يوفق غريمه البروفيسور
مهاتير محمد، رئيس الوزراء الأسبق (97 عاما) في هذه
الانتخابات، فقد بات أنور إبراهيم (75 عاما) على بعد خطوات من تشكيل الحكومة الجديدة
وقيادة البلاد، ليبدأ فصلا جديدا من الكفاح الوطني بعد معاناة مريرة من الجور
والطغيان على يد أقرب الناس إليه..
مهاتير محمد.
إنها
تجربة فريدة في الحكم والمعارضة، وتجربة جديرة بالدراسة في صناعة النهضة، وهي في
ذات الوقت تجربة مريرة في ميدان ألاعيب
السياسة وغدرها.. فقد كان أنور إبراهيم
الرجل الثاني في
ماليزيا واليد اليمنى لمهاتير محمد في بناء النهضة الماليزية،
لكنه فجأة وجد نفسه خلف القضبان بتهم شنيعة سعت لاغتياله معنويا وأخلاقيا وتدميره
سياسيا وجماهيريا، قبل أن يصدر حكم بالإفراج عنه، ومنعه من العمل السياسي داخل
ماليزيا لمدة ست سنوات انتهت عام 2008م.
تجربة فريدة في الحكم والمعارضة، وتجربة جديرة بالدراسة في صناعة النهضة، وهي في ذات الوقت تجربة مريرة في ميدان ألاعيب السياسة وغدرها
بدأت
محنته في العشرين من أيلول/ سبتمبر عام 1998م عندما احتدم الصراع السياسي بينه
وبين أستاذه مهاتير محمد، رئيس الوزراء في ذلك الوقت، وبينما كان أنور قاب قوسين
أو أدنى من اعتلاء سدة الحكم في البلاد خلفا لمهاتير نزغت شياطين الإنس بين
الأستاذ وتلميذه، وظل الخلاف خلاف رأي لكن القوى المتربصة والحانقة على سرعة صعود
أنور إبراهيم وتنامي شعبيته والخائفة من اعتلائه الحكم؛ كانت تعمل ليل نهار لإحداث
الفتنة بين أنور ومهاتير من جانب، ومن جانب آخر لحبك سلسلة من التهم غير الأخلاقية
يتم إلصاقها بأنور، سعيا لعزله وفضيحته وإسقاطه من عيون الجماهير، ثم إدخاله السجن
بعد إعدامه معنويا للأبد.
وقد
نجحت تلك القوى الشريرة فيما خططت تماما، إذ حدثت الفتنة بالفعل، وتم عزل أنور
إبراهيم، وإدخاله السجن يوم 20 أيلول/ سبتمبر 1998م، لكنها لم تنجح في إسقاطه من
قلوب وعيون الناس الذين وثقوا به وأحبوه، ولم تنجح كذلك في هز عرش أسرته القوي
بقيادة زوجته المناضلة د. وان عزيزة، ولا إلحاق الهزيمة النفسية به.
فقد
دخل الرجل السجن وواجه وأسرته أبشع حملة تضليل وتشويه لسيرته وسمعته، وواجه الموت
داخل زنزانته، وتدهورت صحته حتى أصبح قعيد كرسي متحرك مرتديا دعامة العنق، بعد
إصابته بأكثر من انزلاق غضروفي، لكن ذلك كله لم يفتّ في عضد الرجل ولم يهزم أسرته،
وإنما ازداد تماسكا وقوة وإصرارا على مواصلة طريق الإصلاح دون هوادة أو خوف، وصنع
مع أسرته ملحمة سيخلدها تاريخ ماليزيا.
ففي
فترة عزله سياسيا بادرت زوجته بقيادة أنصاره عبر حزب جديد (حزب العدالة الوطني)
قاموا بتأسيسه، ورغم كل المضايقات والتضييق إلا أن الحزب شق طريقه لإثبات وجوده،
إذ تقول وان عزيزة: "لقد فعل الحزب الحاكم كل ما في وسعه لوقف مسيرتنا
لاعتقاده بأننا نشكل خطراً سياسياً عليه..". كانت مشكلة أنور إبراهيم
الأساسية مع طبقة الفساد، فقد ذكر أحد مساعديه خلال محاكمته أن "أنور يمتلك
في حوزته صناديق عدة مليئة بالأوراق التي تثبت فساد وزراء في الحكومة"، وكانت
نتيجة الصراع، أن تكتل الحانقون على أنور والخائفون منه وتمكنوا من إزاحته! لكنه
لم يستسلم حتى وهو أعماق السجن.
وكان
يوم النطق بالحكم على أنور في 14 أيلول/ سبتمبر 1999م بالسجن لست سنوات، يوما
مشهودا، إذ أعلن أنور تحديه للعصبة الحاكمة وقال: لقد هددني مهاتير قبل إقالتي
قائلا: "استقل، أو لأحاكمنك"، وأكد أنور أن لديه أدلة على المؤامرة التي
حيكت ضده ابتداء من المدعي العام حتى آخر مسؤول.
وقبع
البروفيسور أنور إبراهيم في السجن ست سنوات، وظلت معتقداته وأفكاره التي سطرها عام
1996م في كتابه "النهضة الآسيوية" تنبض بالحيوية؛ بل ازدادت نضوجا وقوة،
وأكدت على "وجوب وجود علاقة عضوية بين الأبعاد الاقتصادية والأبعاد الأخلاقية
والاجتماعية لعملية التنمية والتقدم، أو ما يشار إليه في الخطاب الإسلامي باسم "النهضة".
خرج الرجل من السجن وانتهت فترة عزله سياسيا، واستأنف النضال السياسي بجوار زوجته عبر الحزب الذي أسسته، وحصل في أول انتخابات برلمانية على نسبة كبيرة من الأصوات مقابل تدني نسبة الحزب الحاكم، لكن أعداءه كانوا له بالمرصاد، إذ عاودوا تهديده وحصاره
وخرج
الرجل من السجن وانتهت فترة عزله سياسيا، واستأنف النضال السياسي بجوار زوجته عبر
الحزب الذي أسسته، وحصل في أول انتخابات برلمانية على نسبة كبيرة من الأصوات مقابل
تدني نسبة الحزب الحاكم، لكن أعداءه كانوا له بالمرصاد، إذ عاودوا تهديده وحصاره،
ومعاودة محاكمته بتهم حقيرة.
لكنه
كان أكثر صمودا وواصل طريق النضال هذه المرة من خارج ماليزيا قابضا على آلامه
ومتجرعا مرارات الظلم والإبعاد عن الوطن، في شبه عزل سياسي. وكانت النهاية إنصافا
له وخزيا لأعدائه، فقد قاده طريق الكفاح إلى سدة الحكم، فاليوم يخطو أنور إبراهيم
خطواته الأولى نحو العودة إلى سدة الحكم مرة أخرى؛ وضميره ينشد شعاراته النبيلة
ومثله العليا التي طالما ظل يرددها.. "هدفي في المستقبل هو الإصلاح ما استطعت
(إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت)، حتى أجعل ماليزيا دولة وشعبا حرا وطليقا يفكر
بالإنتاج المطلوب وعلى المستوى المطلوب إن شاء الله.. إن العدالة هي روح البلاد..
مصيبتنا أن هناك أناسا مستعدون لأن يبيعوا أنفسهم بثمن بخس، ولقد تربيت على مثل ملايوي
يقول: ميراث النمر جلده، وميراث الرجل ذكر اسمه".
تلك
كانت قصة أول إسلامي يصعد إلى سدة الحكم في تسعينيات القرن الماضي.. ثم الزج به في
السجن.. ثم عودته للصعود إلى أعلى سدة الحكم.