هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بحدود عام 1911 وفي الأسِتانة كان هناك كاتب (درجة وظيفية) مصري ينتمي إلى جيش الدولة العلية اسمه عزيز، يتدثر بمعطف طويل ويضع على ياقته منديلا مطرزا بزهرة القرنفل. كان هذا المنديل للتو مملوءا بالحلوى العصملية، المعجونة بماء الورد. أخذ يمشي ببطء متجها إلى أوسكودار حيث يتمركز العسكر هناك، غير مبال بالأوحال التي علقت بمعطفه. وروحه تنتشي بالمنديل وبالحلوى وباليد الغضة التي أهدت له كل هذا الحب.
أخذت البنت تغني بعفوية عن حبيبها الكاتب الذي علقت الأوحال بمعطفه وهو يحمل المنديل الذي ملأته بالحلوى.. ثم يمضي في طريقه إلى أوسكودار.
أصبح لحن هذه الأغنية فيما بعد من أشهر الألحان التي انتشرت في تركيا والبلقان وبلاد الشام ومصر، وحتى أمريكا. بعد أن أمسك بهذه اللحظة العابرة، موسيقار عبقري ضرير اسمه الملا عثمان الموصلي. أمسك بهذه اللحظة وجعل منها تحفة موسيقية يتنازع على أصلها كل هذه الشعوب.
انطلق هذا اللحن في الشمال وفي الجنوب. خارجا عن سيطرة تلك اللحظة العابرة، وأخذ كل شعب يضيف عليها جزءا هنا ويحذف منها جزءا هناك، مغيرا في مظهر اللحن دون أن يمس هويته التي ظلت مثل الجوهر النفيس الذي لا يمكن اخفاء بريقه، وهو يروي بثبات قصة الكاتب الذي يمشي إلى أوسكودار دون أن يلتفت إلى الأوحال التي علقت بمعطفه الطويل.
تاليا تسجيل لهذا اللحن بإيقاع محدث وسريع باللغة التركية مترجما إلى العربية وغناؤه الأصلي الذي يتخذ أسلوب الموال.
عاد الملا عثمان الموصلي إلى بلده الموصل بعد ذلك وهناك انتشرت تنزيلة موصلية (تشبه القدود الحلبية، وهي قالب موسيقي يمكن تعبئتها بكلمات متنوعة غير الكلمات الأصلية) بعنوان (آل الرسول المرتجى).
إليكم هذا التسجيل من وصلة إنشادية وبأصوات موصلية جميلة:
توالدت من بعد هذه التنزيلة الكثير من الكلمات التي مرت على هذا اللحن في بلاد العرب.
أغنية (لغة العرب اذكرينا) للأستاذ يوسف عمر في العراق. وتنزيلة (وقفت بالذل في باب عزكم) والأغنية المعروفة (يا عذولي لا تلمني) ثم أغنية (غزالي غزالي) في بلاد الشام وفي مصر أغنية (يا بنات اسكندرية) وأخيرا معالجة الأخوين رحباني الذكية (شط اسكندرية).
في عام 2003 صنعت المخرجة البلغارية ADELA BEEVA فيلما وثائقيا بعنوان (لمن هذه الأغنية) سافرت الى تركيا واليونان وألبانيا والبوسنة وصربيا وبلغاريا ولكن دون أن تجد جوابا شافيا حول هذا السؤال: لمن هذه الأغنية؟؟ فكل هذه البلاد تنسب هذا اللحن لتراثها الخاص وتضع لذلك اثباتات لا يمكن دحضها.
أما النسخة البلغارية فقد اشتهرت بإيقاع هادئ للمغني إيليا لوكوف بعنوان (قمر صاف دائم الارتفاع) تتحدث عن ذكرى انتفاضة قام بها البلغاريون ضد الدولة العثمانية في مدينة سترانجا.
والنسخة البوسنية تشير إلى رجل يخاطب حبيبته، وطريقة الغناء تتناسب مع خطاب الأغنية الذي يحاول فيه العاشق التقرب من حبيبته وإغوائها.
وفي 28 أب/ أغسطس سنة 1978 قدم فرانك فاريان مؤلف الأغاني في فرقة (البوني أم) مساهمته الخاصة في معالجة هذا اللحن وأبدع أغنية (راسبوتين)، التي سرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم وأصبح العالم كله ينشد هذا اللحن بإيقاع الديسكو في تلك السنة، ويردد الكلمات التي تتحدث عن راهب دجال أسمه راسبوتين كان يمارس السحر والشعوذة ويصادق أسرة آخر القياصرة الروس نيكولاي الثاني. ظلت هذه الأغنية تتحدث عن غموض واستهتار ذلك الراهب حتى حصلت هذه الأغنية على الأسطوانة الذهبية في بريطانيا وهولندا. وأصبحت من أشهر ما غنت فرقة البوني عبر تاريخها.
ثم جاءت أكثر هذه المعالجات طرافة. أثناء الحرب الأهلية اللبنانية على يد المغني اللبناني الساخر مارون (جوزيف) نمنم وبكلمات الشاعر يونس الأبن بأغنية (كاترين) تمزج بين لحن راسبوتين وبين أغنية يا بنات اسكندرية. تتحدث عن فتاة اسمها كاترين التي عشقها المغني لأكثر من سبع أو ثماني سنوات، ليكتشف بعد ذلك أن بيتها من دون أبواب وقلبها مثل المطار تستقبل فيه العشاق.
وهكذا فإن هذه التحية الوردية التي أطلقتها فتاة في إسطنبول لعاشقها وهي تصفه وتغني له. طارت إلى كل أنحاء العالم وبأشكال تقترب من بعضها أحيانا وقد تختلف إلى حد التنافر في أحيان أخرى إلى درجة أن مخرجة الفيلم البلغارية كانت مهددة في أحد مناطق مقدونيا في سلامتها الشخصية عندما ذكرت للناس في الشارع رأيهم في ادعاء البعض أصل هذه الأغنية التركية.
إن هذا التجوال المتواضع في مسارات هذا اللحن وتأثيره في قلوب من رددوه علاوة على اثباته لعبقرية الشيخ الملا عثمان الموصلي فإنه يثبت بما لا محيد عنه تعدد روايات الشعوب حول حدث ما (وهو اللحن هنا).
وقد لا يكون مهما معرفة أصل وفصل اللحن بقدر أهمية الاستمتاع به، وبقدر أهمية التأمل المتأني لهذه الحوارات عبر السنين والتي نسجتها تلك الشعوب في سعيها الذي لا ينتهي للحياة واثبات وجودها بشتى الطرق.