مقالات مختارة

النظام العالمي الجديد: إفلاس سياسي وأخلاقي

لطفي العبيدي
1300x600
1300x600

الركائز المعيارية الساعية لتقديس سيادة الدولة وتعزيز هيبتها، فقدت كثيرا من صلابتها في ظل المتغيرات الدولية، التي عرفها عالم ما بعد الحرب الباردة. والدولة القُطرية، استغلّت السردية التي تقول بأنّ مبدأ السيادة الوطنية بات يواجه تحديات كبرى ضمن التحوّلات العالمية الراهنة، وبالتحديد في ظل بروز مفاهيم جديدة من قبيل النظام العالمي الجديد، العولمة، التدخل الإنساني، مكافحة الإرهاب، التي تعمل في جانبها الأكبر على تقويض مفهوم السيادة الوطنية. هذا صحيح، ولكن السيئ في الفكر السياسي العربي هو التستّر بمفاهيم فضفاضة تخدم الفرد الحاكم، ويُطوّع بها الجميع حسب خياراته، وأحيانا يتوارى السلطويون خلف النظام الديمقراطي الشكلي لصيانة الاستبداد وخداع الناس.


مسارات من «الاستبداد الديمقراطي»، تلفت الانتباه إلى ضرورة تغيير طبيعة الديمقراطية المتوارثة عن المنوال الغربي بطريقة مسقطة، لا أرضية مادية أو فكرية قابلة لتمثّلها. لأنّ الأمر آل في النهاية إلى الركود وغياب الاستقرار، وجثوم البيروقراطية.

 

كما أنّ الديمقراطية الموجهة وفق أطر سلطوية، اختزلت الإنسان ضمن دوائر استهلاكية مادية.. وسيّرت الجماعات الأهلية وفق وعي قطيعي بعيد كل البعد عن الديمقراطية الرقابية، التي يكون فيها للفرد المواطن مشاركة حقيقية في إدارة الشأن العام، على نحو يحرر المجتمع ويجعله يدرك مبدأ السيادة الوطنية، كأحد الأسس الصلبة التي يقوم عليها التنظيم الدولي المعاصر، والتي يجب أن لا تقوم على حساب اضطهاد الفرد، وإطلاق عملية قمع واسعة ضد الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني، وتهميش المثقّفين، وتدجين معظمهم عبر جعلهم أبواقا للدعاية والتبرير، وسجن المتمسّكين بالفكر الحرّ الذي يكشف مساوئ الاستبداد ولا يبرره.

 

النظام الدولي شبه الفوضوي الذي نعيشه، جوهره الحسابات الاستراتيجية وتعزيز القوّة، التي قلّصت المسؤولية العالمية،

لا يمكن الحديث والحال كذلك، عن دولة تستطيع أن ترتقي إلى مستوى دولة وطنية جامعة، فمسألة قبول الاختلاف والتعدد، تشكل معضلة بالنسبة إلى النظم السلطوية التي ترفض إلى الآن الديمقراطية الرقابية، ما بالك بالحديث عن مفهوم التكامل العربي، الذي يصبح بمثابة النكتة السمجة لبلدان معظمها طاردة للسكان، تقصي كفاءاتها، وتلغي إمكانيات تفوّقها. ولا تُوفّر أدنى شروط الرفاه الاجتماعي في حُكم معلن وصريح بالإفلاس الفكري والمادّي. من هذا المنطلق لا يتعدّى التزام أمريكا وحلفائها بحقوق الإنسان كونه أسطوريا كاذبا، ومجرد كلام للاستهلاك يُنطق به من أعلى الربوة.


فهذه الحقوق تتحدد على أساس الإسهامات في حفظ النظام الذي يرغبون في استدامته. وللحكومات العربية «حقوق» في نظر الإدارة الأمريكية، التي تقدم لبعضهم نوعا من الحماية الأدبية، لأن هذه الحكومات ببساطة تسيطر على الشعوب، وتخنقها، وتضمن في الآن ذاته تدفق الثروة إلى الغرب. وهدف الولايات المتحدة وبريطانيا يتمثل أساسا في الاحتفاظ بالسيطرة على المناطق المنتجة للنفط وليس الدفاع عنها. وإلى الآن، لم يتراجعوا عن مخطط إعادة صياغة الأنظمة السياسية، من خلال إضعاف مؤسسات الحكم المركزي، ودعم المجموعات الأيديولوجية والإثنية.


المشروع الذي تزامن مع تبنّي واشنطن مفهوم إعادة رسم خريطة المشرق العربي وفق قاعدة التجزئة ضمن الحدود. وهم يدركون بأنّ القوة الاقتصادية هي الرافد الجوهري الذي يجعل أي دولة تؤمّن موقعها في السياسة الدولية، ويكون لها حضور مؤثّر في ديناميكية القضايا على مستوى العالم، وقد زادت قيمة المكوّن المعرفي والتكنولوجي عن غيره أيضا، وفعلا يعدّ الاقتصاد بشكل واضح أكثر أهمية من كونه مقياسا للقوّة العظمى، فهو مركز القوّة الأهمّ. والشأن الحقيقي للعالم في المستقبل سيتركّز على القضايا الاقتصادية والتفوق التكنولوجي.

 

ومن الطبيعي أن يحدث ارتباك استراتيجي في العواصم الغربية، وأن يُجنّ جنون أمريكا وبريطانيا تحديدا من محاولات بوتين تغيير النظام العالمي، وزعزعة مرتكزاته التي وضعها الغرب الليبرالي. والخطر الأكبر بالنسبة إليهم أن لا يجدوا آذانا صاغية لدى حلفائهم المعهودين في الشرق الأوسط، خاصة الدول المنتجة للثروة الطاقية، فهم اعتادوا على الولاء وتنفيذ الأوامر، انطلاقا من أنّ الواجهة التي يُعتمد عليها يجب أن تكون ضعيفة، ومنصاعة على الدوام في استراتيجيتهم للتعامل مع المنطقة. بيئة استراتيجية صعبة بمعطيات جديدة مليئة بالغموض والتعقيد والهواجس.


وعولمة السياسة العالمية هي على المحكّ زمن كورونا وتداعياتها المتواصلة، وما انجر عنها من اضطراب في الاقتصاد العالمي، وارتباك في مرتكزاته الليبرالية، التي كثيرا ما تعطي للسوق الفردية امتيازا فوق جميع أشكال التنظيم الاجتماعي للدولة الوطنية، وعلى نطاق عالمي غير مقيّد ينزع نحو الاستهلاك. والنظام الدولي شبه الفوضوي الذي نعيشه، جوهره الحسابات الاستراتيجية وتعزيز القوّة، التي قلّصت المسؤولية العالمية من أجل التصدّي لقضايا الفقر، والتفاوت بين الشمال والجنوب، وإجهاد المناخ والإضرار بالبيئة، فضلا عن أمن الأفراد والجماعات وحقوق الأقلّيات واللاجئين، وانتهاكات حقوق الإنسان عامّة، والتقصير الفادح في منح الدول المضطهدة حق تقرير مصيرها وأوّلها فلسطين.

 

مثل هذا التخاذل الدولي ليس سوى علامة على إفلاس النظام السياسي العالمي في المستويات الأخلاقية والإنسانية بدرجة أولى، من حاصل فشل وكالات نظام الحكم من الهيئات الأممية، لارتباطها إلى حدود هذه اللحظة بدوائر القرار السياسي في بعض الدول، وأيضا بمنطق السوق التجارية والهيمنة الاقتصادية والابتزاز المالي في الدعم والتمويل والأوامر الفوقية، وكذلك بأيديولوجية التمكين والسيطرة وتفكيك الدول، ومنع توحّدها القومي الاندماجي. 


في الأثناء، عسر استيعاب البُنى الأهلية داخل المجتمعات العربية هو المشكلة الحقيقية بالنسبة لفكر سياسي مهزوم بلا رؤية أو استراتيجية. ما يشغله لا يزال السيطرة على المجال العام، وخنق التعدّدية السياسية، واستحداث أحكام تشريعيّة، وتطويع القوانين لخدمة مصلحة النظام ومأسسة العقيدة السّلطوية، كي تصبح جزءا لا يتجزّأ من أجهزة الدولة التي يسهل عليها تطويق أطياف المجتمع تحت مجهر الرقابة والاشراف. ونتيجة عجزها عن تشكيل علاقة متوازنة بين السلطة والمجتمع، تفاقمت العوامل التي تنخر في جسد دول المنطقة، وتمنعها من تشكيل نظام أمني متوازن، على غرار الضعف الاقتصادي، وسوء توزيع الثروة، والتوتر بين مختلف المجموعات الإثنية والمذهبية.


هكذا تحوّلت الأنظمة السياسية في جلّ الأقطار العربية إلى معوّقات حقيقية في عملية التغيير والإصلاح، والغريب أن ينهوا ولايتهم الرئاسية بحصيلة كارثية على المستوى الوطني، ثم يخطبون في الناس وكأنهم لم يكونوا جزءا من العملية السياسية. هذا مشهد يتكرر في بعض البلدان العربية التي يحدث فيها انتقال للسلطة، وهي قليلة بطبيعة الحال في عصر ما بعد التحرّر الوطني الذي أفرز علاقات غابت فيها السيطرة العسكرية المباشرة مقابل سيطرة ثقافية واقتصادية.


فأوقعت دولا في تبعية دول، وصارت دول في موقع المركز وأخرى في موقع المحيط. وإلى الآن يرغبون وفق إرادة الهيمنة في أن تظلّ الدول العربية وغيرها من دول العالم الثالث في تبعية للدول الاستعمارية، تتحرّك في محيطها سياسة واقتصادا وثقافة ومعرفة، وأن لا تستفيد من المتغيرات الدولية، في حكم مؤبد وخاضع لخبراء العلاقات العامة، وشركات الإعلان والمال والبنوك. والماهرون في الأداء من وراء الكواليس.

0
التعليقات (0)