ليست
العلاقات المغربية الفرنسية في أحسن حال، فمؤشرات عديدة تدل على أن
ثمة درجة عالية من الصمت بين البلدين، وأن منسوب التواصل والتفاعل بين المغرب
وفرنسا في تناقص مستمر، ولا يبدو في الزمن القريب والمنظور أن ثمة ما يدل على أن حلحلة
ما ستعرفها العلاقات المغربية الفرنسية قريبا.
والواقع أن المغرب وفرنسا تجمعهما علاقات قديمة، كثيفة ومتنوعة، وأن الحديث
عن القطيعة المحتملة بينهما غير وارد منطقيا، ولا تسمح بها معطيات التاريخ
وضرورات الجغرافيا، وواقع المصالح الحيوية المتبادلة. صحيح أن ثمة مراوحة بين التعاون
والانسجام بين البلدين تارة، وهناك لحظات يسود فيها الجفاء والتوتر المباشر
والخفي، لكن في العموم حافظ البلدان على الدوام على جوهر ما تربطهما من وشائج ومنافع
وتطلعات مشتركة.
جدير بالتذكير أن السياسة في عمقها وأبعادها مبنية على المصلحة، فهي التي
تحركها، وتتحكم في خيوطها وقراراتها، ولأن المغرب كان أحد مستعمرات
فرنسا لمدة فاقت
الخمسين سنة (1912-1956)، فقد ظل، على الرغم من استعادته لاستقلاله وسيادته
الوطنية، مرتبطا بفرنسا باتفاقيات والتزامات ضمنت لفرنسا مجموعة من المنافع في شكل
"حقوق مكتسبة"، ومنحتها وضعا تفضيليا في المغرب، سمح لها بالاستفادة من خيرات
البلاد، ومكّنها من أن تكون حاضرة في الاقتصاد، والثقافة، والتعليم، واللغة، وكل
ما له صلة بالمجالات الحيوية في المغرب. بل إن بصماتها في التوجهات الاستراتيجية والمصيرية
للمغرب ظلت قائمة وواضحة لعقود عديدة بعد الاستقلال.
المغرب وفرنسا تجمعهما علاقات قديمة، كثيفة ومتنوعة، وأن الحديث عن القطيعة المحتملة بينهما غير وارد منطقيا، ولا تسمح بها معطيات التاريخ وضرورات الجغرافيا، وواقع المصالح الحيوية المتبادلة
ولعل ذلك هو حال كل مستعمرات فرنسا القديمة، بيد أن الظروف، وهذا أمر
طبيعي، تغيرت، ولم يعد مقبولا لدى العديد من الدول، ومنها المغرب، أن يبقى الحضور
الفرنسي مبنيا على جلب المكاسب والمنافع والامتيازات، دون أن يعي أن للطرف الآخر حقا
أصيلا في صيانة سيادته، وضمان الاستغلال الأمثل لخيراته، وأن السياسة في عمقها يجب
أن يُعاد بناؤها على فلسفة الشراكة والربح المتبادل، وإلا ستختل العلاقة بين
البلدين، وستكون الخسارة جسيمة بالنسبة للطرف الضعيف، والحالة هنا المغرب.
لم يكن هذا هو حال فرنسا في المغرب، بل تكوّن وعيٌ جديد في عموم الأقطار الأفريقية،
وهو مرشح لأن يتطور أكثر، ويترسخ، وتتعمق جذوره، مفاده أن على فرنسا أن ترفع يدها
عن مستعمراتها السابقة، التي كافحت وقدمت شهداء من أجل استرداد سيادتها الوطنية،
وقد سُلبت خيرات هذه البلدان، وتم نهب ثرواتها الطبيعية الغزيرة والاستراتيجية، بسبب
الحضور المتجذر والقوي لفرنسا، وبفعل تحالف هذه الأخيرة مع النخب الحاكمة التي هيمنت
على السلطة لعقود.
علاوة على اختيار تنويع العلاقات التي أقدم عليها المغرب بوعي وإرادة، هناك قضية الوحدة الترابية التي أصبحت موجها مفصليا لعلاقات المغرب مع شركائه، فهي المنظار -كما ورد في خطاب سابق للعاهل المغربي- الذي يحدد من خلاله علاقاته مع شركائه، وعلى أساس هذه القاعدة أعيدت صياغة علاقات المغرب مع إسبانيا وألمانيا بعد مرحلة من الجفاء، وهو ما سعى المغرب لأن يحصل في الجانب الفرنسي
ففي كثير من البلدان الأفريقية ظلت فرنسا تنصّب الرؤساء وتقيلهم، دون أن
تكون للشعوب إرادة في ذلك، كما وضعت يدها على مقدرات هذه البلدان وخيراتها، ووجهت
سياسات التنمية نحو ما يخدم استراتيجياتها في
أفريقيا، وساهمت تاليا في واقع الفقر
والهشاشة الذي استبد بمجمل الدول الأفريقية، وأبقى عليها رازحة تحت أحزمة التخلف،
كما كانت لفرنسا أدوار في تأجيج الصراعات وموجات الاقتتال الأهلي والعرقي في جغرافية
المنطقة. ولعل من اللافت للانتباه أن سجل فرنسا في ما ألمّ بأفريقيا ساهم في تدوين
فصوله كل مكونات الطبقة السياسية الفرنسية، من يمينها إلى يسارها، لا تمييز بين
الاشتراكيين وغير الاشتراكيين، فكلهم شركاء في "الدراما الأفريقية".
يمكن حصر واقع الجفاء في العلاقات المغربية الفرنسية في مصفوفة من المسببات،
أولها التحول النوعي الحاصل تدريجيا في الدبلوماسية المغربية، حيث أعاد المغرب
صياغة تصوراته ورؤيته لما يجب أن تكون عليه سياسته الخارجية، والشراكات مع الأطراف
الدولية. فعلاوة على اختيار تنويع العلاقات التي أقدم عليها المغرب بوعي وإرادة،
هناك قضية الوحدة الترابية التي أصبحت موجها مفصليا لعلاقات المغرب مع شركائه، فهي
المنظار -كما ورد في خطاب سابق للعاهل المغربي- الذي يحدد من خلاله علاقاته مع
شركائه، وعلى أساس هذه القاعدة أعيدت صياغة علاقات المغرب مع إسبانيا وألمانيا بعد
مرحلة من الجفاء، وهو ما سعى المغرب لأن يحصل في الجانب الفرنسي، الذي ظل موقفه
مبهما، غير صريح وواضح، وفي الكثير من الأحيان يلعب على أكثر من حبل، ويوظف أكثر من
تناقض. لذلك، ستظل العلاقات المغربية الفرنسية متأرجحة بين التعاون والتوتر، ما لم
تجد هذه العقدة طريقها إلى الحل من قبل فرنسا.
فرنسا لم تعبر عن رضاها عن الموقع الجديد للمغرب في القارة الأفريقية، ولربما ذهبت إلى أبعد من هذا فاعتبرته مزاحما ومنافسا لها في مناطق نفوذها التقليدية، ومن الطبيعي جدا أنها ستكيف هذا الواقع (مكانة المغرب في أفريقيا) على أنه مصدر ضرر لمصالحها الحيوية، خصوصا وأن ثمة موجة متصاعدة من العداء لفرنسا في أفريقيا
ثمة عامل آخر للتفسير، يتعلق بالمكانة الجديدة للمغرب في أفريقيا، كشريك مقبول،
ومتمتع بالمصداقية والفعالية لدى الكثير من الأقطار الأفريقية، بل إنه تحول، بحكم موقعه
الجيواستراتيجي، منصة للتواصل، وجسرا مركزيا لربط أوروبا بأفريقيا اقتصاديا
وتجاريا وبشريا.. ففرنسا لم تعبر عن رضاها عن الموقع الجديد للمغرب في القارة الأفريقية،
ولربما ذهبت إلى أبعد من هذا فاعتبرته مزاحما ومنافسا لها في مناطق نفوذها
التقليدية، ومن الطبيعي جدا أنها ستكيف هذا الواقع (مكانة المغرب في أفريقيا) على
أنه مصدر ضرر لمصالحها الحيوية، خصوصا وأن ثمة موجة متصاعدة من العداء لفرنسا في أفريقيا.
هناك اعتبار ثالث للتفسير، يخص سياسة اللعب على التناقضات المغاربية البينية،
حيث لم تتردد فرنسا مؤخرا في وضع كل بيضها في سلة الجزائر، والسعي إلى استمالة
تونس، بعدما قامت بأدوار كثيرة -وما زالت- في الحرب الدائرة في ليبيا. وهي بهذه
السياسة تعمق الخلافات والتوترات داخل المنطقة المغاربية، من أجل التحكم في
بلدانها كاملة، ومن ثم ابتزاز الجميع، وجعل الجميع في مواجهة الجميع، وهي في
الواقع سياسة قديمة، مارستها فرنسا حتى ما قبل خروجها من بلاد المغرب.