هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
دعكم من مشاكل وأزمات وكوارث العالم الثالث ومنه العالم العربي الآن، سنأتي عليها في آخر المقال، تعالوا قبل ذلك نعاين أوضاع العالم الأول، وخاصة أوروبا وبعض الدول الشرق أوسطية الكبرى التي تقف الآن على كف عفريت حقيقي، وكيف ستؤثر أوضاعها الكارثية علينا نحن العرب. وللعلم يجب ألا يكون تركيزنا الإعلامي فقط على العواقب الوخيمة للحرب في أوكرانيا على الاقتصادات الغربية، بل يجب أن نوّسع دائرة النظر لنرى المشهد الأوسع. ليس صحيحا مثلا أن ارتفاع نسبة التضخم في العالم الغربي سببها الغزو الروسي لأوكرانيا فقط، وما نتج عنه من ارتفاع أسعار الطاقة، وشح بعض السلع الاستهلاكية كالقمح والذرة والزيت، فهناك عوامل أخرى واضحة للعيان وعوامل أخرى لا نعرفها، والبعض يعزوها إلى مؤامرة تديرها أياد خفية في مكان ما من العالم، تلعب وتتلاعب بالاقتصاديات العالمية وبلقمة عيش شعوب المعمورة، منذ اندلاع جائحة كورونا وما تلاها. لكن لو نظرنا إلى ما هو واضح، لوجدنا أن التضخم وارتفاع أسعار السلع بشكل جنوني وخاصة في الولايات المتحدة، قد بدأ يرتفع بشكل رهيب قبل الغزو الروسي لأوكرانيا بشهادة رئيس البنك الفيدرالي الأمريكي نفسه. ومن المضحك أن يتحجج البعض أن ارتفاع أسعار الكهرباء والماء والسلع في بريطانيا سببه الأزمة الأوكرانية، فمن المعلوم طبعا أن بريطانيا لا تعتمد على النفط أو الغاز الروسي، ولا تعتمد أيضا على القمح الأوكراني أو حتى الروسي، ولا على أي منتجات قادمة من بلدان الصراعات والحروب، فلماذا إذا ترتفع فيها فواتير الكهرباء بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ البريطاني الحديث؟ لا تجد مواطنا بريطانيا هذه الأيام إلا ويشتكي من الارتفاع الجنوني لسعر الكهرباء، فبعد أن كانت العائلة البريطانية تدفع مائة جنيه أو أكثر في الشهر، باتت بعض الفواتير تصل إلى ألف وأحيانا ألفي جنيه، وهو رقم مرعب لا يتناسب مطلقا مع رواتب البريطانيين المحدودة، التي لا تتناسب مطلقا مع نسبة التضخم المهولة التي تجاوزت الأربعين بالمائة، ربما لأول مرة في التاريخ الحديث، حسب الرواية الرسمية، بينما في الواقع قد تكون ضعف ذلك أو أكثر. وقد بدأت حركة الإضرابات في البلاد تشل الحياة، وهناك الآن عرائض يوقع عليها مئات الألوف من البريطانيين للامتناع عن دفع فواتير الكهرباء، بعد أن أصبح شبه مستحيل، وهو مرشح للارتفاع إلى حدود جنونية في الأسابيع القادمة. وعندما ترتفع أسعار الطاقة، فلا شك أن أسعار كل السلع ستتبعها دون أدنى شك في أوروبا كلها، وأيضا أمريكا وبقية العالم المتقدم.
ويأتي عامل الجفاف في معظم أصقاع الدول الغربية ليزيد الطين بلة، فمعظم الدول الأوروبية واجهت هذا الصيف موجة حر غير مسبوقة منذ خمسمائة عام، أدت إلى جفاف غير مسبوق أيضا، دفع بعض البلدان الغربية إلى منع استخدام المياه لري الحدائق، وهو أمر نادر جدا. ولا ننسى أن المصانع قد توقفت أيضا في مقاطعات صينية كبرى، مما أدى إلى توقف المصانع بسبب شح المياه المولدة للطاقة.
وإذا كان وضع أوروبا وأمريكا والصين يبعث على القلق الشديد، فماذا عن بلادنا العربية التي ترزح تحت وطأة أزمات معيشية منذ سنوات بسبب الثورات؟ فإذا كان الجفاف يشل الكثير من القطاعات في أوروبا والصين، فماذا سيفعل ببلدان عربية تعاني من الجفاف منذ عقود؟ ويزيد الوضع خطورة بالنسبة لبلد كمصر الذي يواجه أزمة مائية بسبب سد النهضة الأثيوبي وكذلك السودان. ماذا سيكون تأثير ذلك على الوضع المعيشي والاقتصادي الذي يتدهور يوما بعد يوم؟
ومما يزيد الطين بلة، أن أزمة الخبز لم تعد مرتبطة فقط بأوكرانيا وروسيا، بل إن أوروبا ستقلل من تصدير المواد الاستهلاكية وستحتفظ بها لشعوبها بسبب الجفاف أولا، والتدهور الاقتصادي الملحوظ. ولا ننسى أيضا أن الهند أكبر مصدر للأرز في العالم، باتت تقول إنها ستوقف التصدير لأن إنتاجها بالكاد يكفيها في هذه الظروف الخطيرة وغير المسبوقة. وهل تتذكرون أيضا قبل حوالي عام عندما طالبت الصين شعبها بتخزين المواد الأولية، ثم ألمحت إلى وقف بعض الصادرات الغذائية؟ ماذا سيأكل العرب إذا ومن أين سيحصلون على غذائهم حتى لو توفرت الأموال، وهي غير متوفرة أصلا إلا في بلدان الخليج؟ تصوروا أن السودان القادر على إطعام العالم العربي كله خبزا، يستورد القسم الأكبر من قمحه من روسيا وأوكرانيا، وأن تسعة وتسعين بالمائة من القمح الذي يستهلكه اللبنانيون المنكوبون يأتي أيضا من الخارج. والمؤلم أن لبنان لا يمتلك لا الغذاء ولا ثمن الغذاء. وكذلك سوريا، حتى القطاع الزراعي متعثر جدا، بسبب شح المياه وارتفاع أسعار الطاقة وانعدام الكهرباء وعدم توفر الأموال اللازمة للمشاريع الزراعية؛ بسبب إفلاس خزينة البلد، أضف إلى ذلك أن النظام لا يمتلك ثمن القمح المستورد، فماذا سيفعل السوريون الذين تزداد كوارثهم يوما بعد يوم، وقد بلغت نسبة الذين يعيشون تحت خط الفقر أكثر من تسعين بالمائة؟
وحدث ولا حرج عن بلدان المغرب التي تعتمد كثيرا على أوروبا بسبب القرب الجغرافي، بينما أوروبا اليوم باتت تصرخ قبل غيرها من وطأة الظروف الاقتصادية والمعيشية القاهرة. حتى دول الخليج ستجد صعوبة في تأمين حاجاتها حتى لو امتلكت المال، فلا ننسى أن الأوروبيين لديهم الكثير من المال، لكنهم يواجهون أزمات زراعية وغذائية بسبب الجفاف أولا، وارتفاع التضخم وشح مصادر الطاقة ثانيا.
باختصار فإن الأشهر القادمة لن تحمل معها للكبار سوى الكوارث، وإذا كان الكبار يصرخون، فماذا سيفعل الصغار؟ لقد بدأت تظهر أصوات جديدة غير مألوفة من داخل مصر نفسها، لتحذر العرب من الأهوال الرهيبة القادمة خلال أقل من عام، ومن هذه الأصوات التي تخلت عن صمتها وبدأت تدق ناقوس الخطر بشكل لافت وغير مسبوق، الإعلامي المصري الشهير عماد الدين أديب المحسوب على الدولة المصرية ودول الخليج، فقد نشر مقالا فريدا من نوعه وبلهجة تحذير مخيفة لأول مرة ربما في تاريخه الإعلامي الطويل، يقول فيه حرفيا: «يا خوفي الشديد على كثير من أنظمتنا وشعوبنا من الآن حتى منتصف العام المقبل، حينما تصبح لقمة العيش وسوء الخدمات واستحالة الحياة اليومية هي وقود اضطرابات اجتماعية مدمّرة».
يا ويل الدول العربية من الشهور المقبلة!