هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
الدول مثل الشعوب وتلك طبيعة الأشياء، تحب وتكره وتتنافس وتكايد، حتى وقد تأخذ تلك الأوصاف في السياسة أسماء مغايرة مثل الصداقة والعلاقات الاستراتيجية والشراكة والتنافس.
فالدول هي مجمع ضخم لأفرادها وشعوبها، وتستمد مزاجها الذي يحركها من المزاج النفسي للأفراد والجماعات، وتلك كانت محركا لصراعات التاريخ، التي ظهرت فيها حتى المزاجات النفسية للزعماء، وغالبا ما تتخفى خلف المصلحة الوطنية.
زيارة نانسي بيلوسي لتايوان، كانت التعبير الأشد عن صراع إرادات القوتين الأكبر بين النسر والتنين، بعد أن تخللت المكالمة الهاتفية بين زعيميهما لغة احتراق الأصابع، استلهاما للنار من الأسطورة الصينية حين ينفثها التنين، وإن كان النسر الذي اعتاد التحليق عاليا أبعد من أن تصل إليه النيران.
وهذا الصراع الهادئ الذي أخذ يتصدر النقاش العام في الولايات المتحدة، ولم يصل ذروته بالإجراءات التي اتخذها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بفرض الجمارك على بعض البضائع الصينية، لكن من الواضح أن الدولة الأمريكية العميقة التي تراقب وتقرأ وتحلل بهدوء منذ عقود، باتت تعرف أن الأمر أبعد من ذلك، فهو صراع على زعامتها للعالم، وبأن التنين يستولي على أعشاش النسور المنتشرة.
منذ بداية القرن، صعدت الصين لتصبح أكبر اقتصاد في العالم بحسب القياس الذي تُحدد من خلاله وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أفضل معيار للمقارنة بين الاقتصادات الوطنية، كان ذلك بداية إنذار لدولة استحوذت ماليا على العالم، وفرضت عملتها في التعاملات التجارية، وورثت الهيمنة بعد الحرب العالمية الثانية بعد انتصار قوتها الساحقة على النازية، وتخليص أوروبا حيث مواقع الامبراطوريات القديمة، وزحفت بهدوء مرة ثم بالقوة مرات، لتعلن قرنا أمريكيا بامتياز، وتعزز ذلك بعد انهيار الاتحاد السوفييتي لتصبح قائدة العالم بلا منافس.
فجأة تظهر الصين وإن كانت مفاجأة للبعض، ولكنها لم تكن كذلك على الإطلاق بالنسبة لمراكز البحث ووكالات الاستخبارات ودوائر القرار في واشنطن، وإن كانت قد بدأت زحفا ومنافسة اقتصادية حيث ظهرت منذ أواخر العقد الماضي منافسا تكنولوجيا، تفوق على التكنولوجيا الأمريكية.
وقد ظهرت الأزمة في شبكات الجيل الخامس G5 التي تدخلت الولايات المتحدة لمنع وصولها أو انتشارها، وذلك يعني الحصول على بيانات تعطي الصين قدرة أوسع لاستغلال البيانات والتحكم أكثر في العالم.
زحفت الصين نحو أفريقيا القارة المهملة، التي لم تكن تعني للعالم سوى مواد خام أو ساحة للأمن ومكافحة الإرهاب.
دعمت بكين دول القارة بالقروض الميسرة والبنى التحتية وإنشاء المستشفيات ودعم الزراعة وإرسال أفضل خبرائها، وشراكات اقتصادية كانت تسير بنفس القوة مع تمدد صيني وصل للمنطقة العربية، وأبرزها الخليج الذي اعتبر إلى حد قريب جزءا من النفوذ المحتكَر للولايات المتحدة وبعض أسواق أوروبا وآسيا.
كل هذا الزحف كان يحدث خلال العقدين الماضيين، في حين كانت الولايات المتحدة تستنزف رأسمالها في حروب الإرهاب، التي كلفتها حسب تقرير نشرته جامعة براون 8 تريليونات دولار.
وهو رقم ضخم أنفقته واشنطن في العشرين سنة الماضية، التي كانت تنتهي بعض تلك الحروب بانسحابات أمريكية من تلك المناطق، فيما كانت بكين تترقب وتتحين اللحظة للاستيلاء عليها.
وفي ذروة العقدين الماضيين، جاءت أزمة الاقتصاد العام 2008 ضاربة الاقتصاد الأمريكي، لتصبح الصين المحرك الأول للاقتصاد العالمي.
وهنا أزمة العلاقة بين إمبراطوريتين، الأولى اعتادت الهيمنة وانتصرت في كل حروبها حول العالم، والأخرى الصاعدة التي لا تتوقف عن الزحف بكل الوسائل. يقول خبير الشؤون الدولية الأمريكي غراهام أليسون: «إذا ما تمكن النظام الشمولي من تحقيق حلمه، ستنزع بكين واشنطن من العديد من مواقع القيادة التي اعتادت عليها خلال القرن الأمريكي».
ولأن الإمبراطورية الأمريكية تذكرت كيف أزاحت بنفسها الإمبراطوريات السابقة، تدرك أن الصراع مع الصين هو صراع إزاحة، فقد تحولت الصين إلى مخزن العالم وورشته الكبرى ومورده الأول، لا تسيطر فقط على الآلات والغذاء، بل باتت تزاحم على التكنولوجيا وتبني قوة عسكرية لتكون الأبرز على مستوى العالم.
سترتبط الصين العام 2030 بستين دولة في العالم، من خلال طريق الحرير بخطوط قطارات تمر عبر آسيا وروسيا نحو أفريقيا وأوروبا لتصل سلعها للعالم بتكلفة أقل، ما يعني مزيدا من السيطرة على الاقتصادات وما يرافقها من قوة تكنولوجية، وربما سوق السلاح التي بدأت تنتج أجيالا متطورة فرط صوتية، كل ذلك سيؤدي إلى مزيد من السيطرة ومزيد من النفوذ الدولي نحو موقع الهيمنة الأكبر.
وفي لحظة ما، يظهر أن الولايات المتحدة ليست قادرة على وقف هذا التمدد الذي تديره بكين بكونفوشيوسية هادئة.
«إذا لم يتم إقناع الصين بأن تكبح جماح نفسها أو تتعاون مع الولايات المتحدة سيكون من المستحيل تلاشي اندلاع حرب كارثية». هكذا يتحدث الأمريكيون كما تنقل بعض التقارير، إذ تضغط الولايات المتحدة على بعض الدول لعدم التعاون مع الصين أو حل شراكتها في مشاريع معينة كما حدث في السودان وغيرها. لكن الحرب الروسية التي خلخلت بدرجة ما بعض التوازنات الدولية وأولويات بعض موازين القوى «الغاز والنفط مثلا أصبحا قوة مهمة»، تلك الخلخلة ربما لن تنجح في وقف التمدد الصيني.
هذا هو التاريخ.. إمبراطوريات تتقدم وأخرى تنطوي.
وحين بدأت الولايات المتحدة تمددها الإمبراطوري، كانت أكثر تعاونا وأكثر أخلاقية؛ تأخذ على من سبقها قيامهم بالحروب والاحتلال، وتمكنت من بناء علاقات مع نظم بلا جيوش، حيث سخر الرئيس الأمريكي الجنرال دويت أيزنهاور في مكالمة مع ونستون تشرشل من قيام خليفته رئيس وزراء بريطانيا أنتوني أيدن بشن حرب على مصر العام 56 قائلا: «أنا أحتل أي دولة دون جندي واحد».
لكن العقود الأخيرة بدت أكثر شراسة، وهو ما يعزوه علماء السياسة إلى أن الإمبراطوريات في طريقها للهبوط تصبح أكثر شراسة، لقد احتلت العراق وأفغانستان وضربت السودان وصارعت في سوريا وحاصرت إيران، ولم يتوقف أزيز طائراتها وأصوات مدافعها، فاستنزفت رأٍسمالها وهيبتها إلى درجة أن زعماء دول كانوا يرتعدون من سطوة الإدارة الأمريكية، باتوا أكثر جرأة على تحديها.
هل يحتمل العالم حربا كارثية؟ صحيح أن مرحلة التسلم والتسليم للإمبراطوريات عادة ما تسبقها حرب طاحنة، ولكن العالم لا يحتمل بعد أن بات لديه أسلحة تكفي لتدميره، تبدو حروب الماضي مجرد لعبة أطفال أمامها، ولا خيار إلا بتعديل الولايات المتحدة سلوكها السياسي باتجاه الشراكة من أجل عالم أفضل، وليس تنافسا يطيح بهذا العالم، أن تعترف أنها أخطأت كثيرا وتجاه الكثيرين.
فالعالم لا يتوقف عند حدود، وقد شهد التاريخ أفول إمبراطوريات قديمة ما زالت أصداؤها تتردد في زوايا الحاضر، وحين تدرك الخراب الذي فعله المحافظون الجدد، ستدرك حينها أن السياسة لا تدار دائما بالقوة...!!!!
عن الأيام الفلسطينية