هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
عند عتبة العيد، وبعد يوم صوم شاق، وضَنك مُرِّ المَذاق، وشدة حَرٍّ وضيق، جلس أبو محمد سعيد، بجذوره الثَّمودية، وأصوله اليمانية، وفروعه الفلسطينية خاصة والشآمية ـ العراقية عامة، كأنه ينسل اليوم من اليمن السعيد..
جلس أمام خيمته في مخيم من مخيمات النزوح العربيِّ المديد، ساقته إليه الحرب الضروس التي لا ترحم ولا "تُفْهَم" ولا يُنْتَظَر لها انفراجٌ بَلْهَ انتهاء، تلك التي أخرجته من داره، وأثخنته جراحُها وأَثقَلته أوزارُها.. جلس ينظر إلى زوجته وأولاده وبناته المكومين داخل الخيمة كحطب الدُّفْلى، ويفكر بصغاره وبأسمالهم وبما يقدمه لهم غير الخبز القديد في صبح العيد.. ويتذكَّر الدار التي وُلِدَ وترعرع فيها وورثها جده عن أبيه وأبوه عن جده، وتلك التي بناها بكد يمينه وعرق جبينه في بقعة حبيبة إليه من الأرض، أرض العرب التي سكنها أجداده منذ قديم الزمان..
وتهادت أمامه صورٌ هي عرائسُ ذِكَرٍ وبناتُ فِكَر.. فهبَّت ناره وزاد ضرامُها، ولاجت دمعته في العين ودنا هطولُها.. فأنف أن يذرفها، "باطل.. أَوَ يَبْكي الرِّجال."؟!.. فقدر الرجال الصبر والعزم وحمْل الأثقال.. لكن صبر أبي سعيد نفدُ، وعزمُه انثلَمَ، وحملُه ثَقُل، والذكريات يُجرِّحْنَه ويُمَرْجحنَه وحنينه إلى الديار يزيد.. اشتدت عليه محنتُه في ملجئه وتسربت سعيراً في جوانحه، فهاج وجده ووجيب قلبه واستبدَّ به الحنين، وتوترت منه الأعصاب والأوردة والشرايين، وغدت روحه وتراً حاداً يئنُّ على قوس الزمن، يعزف على ربابة الوقت ألحان البؤس ويغني ألوان المواويل بصوت مضمخ بالدمع حزين..
فجأة غصَّ بما فاضت الغربة عليه بحاضر أليم وماض قريب عامر بما يهيب به وما يريبه، فتلاشت الألحان والأصوات التي تحمل المواويل وأقفر سمعه وغشي بصره ما غشيه وشعر بهول الصمت من حوله.. تشنَّجت عضلات وجهه وارتعدت فرائصه.. نهض وراح يَحوصُ في المكان، دار حول الخيمة وسار في تلافيف المخيم، وبقي على هذا الحال إلى أن نال منه التعب ما نال، فعاد وهَجَعَ أمام الخيمة تتناهي إليه أنفاس الأطفال، لا يكاد يغفو حتى يصحو..
أدلج الليل، وغابت الثُّريا وتبعَها نجم سهيل وهو في الأرق وبؤس القَلَق.. نظر إلى عمق المَدى السماوي فرأى نَجْمَة الصبح تتألق وحدها عروساً في سماء البهاء.. يا لها من وحيدة فريدة.. ذكَّرته بالفجر القريب فذكر الله واستغفر وكَبَّر.. "اليوم عيد". توضأ وصلَّى الصبح في الوقت وارتفع صوته قليلاً يتهجَّد.
استيقظت أم محمد على حركته، قالت.. "شعرتُ بك تهجُس ولم تنم..".. أتاه صوتُها كأنها تتكلم مِن عِلِّيَة داره التي تسكنه ويسكنها.. هبَّ في داخله الحنين، شعر رأسه الأبيض هفَّ مع النسيم كأنه سنابل القمح في حقله يغازلها الريح.. نطق لسانُه من دون استئذان كأنه هو الآمر الناهي، قال: "أم محمد البَسي وأيقظي الأولاد وألبسيهم ملابسهم.".. هزَّها شيئٌ في صوته، قالت بلهفة: "خير إن شاء الله يا أبو سعيد.".. نظر إليها فلمعت صورتُها في ذاكرته عروساً، رأى جبينها وضاءً كأنه مشكاة، بدت له مشرقة، وتراءت له في الدار تحمل إليه خبز القمح ساخناً من فرن الدار وتُعِدَّ له فطوره وتشاركه تهيئة قهوته العربية، القهوة المُرة بالهيل.. فاض حنينه وشوقه، قال: "وحشتني الدار يا بهيجة، سنُعيِّد هناك.. ونزور قبور أمواتنا ونقرأ لهم الفاتحة..". دهشت بهيجة " هناك؟! كيف؟ كيف نصل، ومتى نصل، وهل نصل؟ كيف ستكون الدار، كيف يكون.." وغصَّت بدمع الفقد والفرح.. شعر بنبض قلبها فلم يتركها لأفكارها وهواجسها.. قال: ".. هيا بسرعة، سنقطع مسافة من الطريق قبل حَمَاوة الشمس.. لم أعد أطيق البقاء هنا، أيقظي الأولاد ولا تلفتي نظر أحد من الجوار. "..
جلس أمام خيمته في مخيم من مخيمات النزوح العربيِّ المديد، ساقته إليه الحرب الضروس التي لا ترحم ولا "تُفْهَم" ولا يُنْتَظَر لها انفراجٌ بَلْهَ انتهاء، تلك التي أخرجته من داره، وأثخنته جراحُها وأَثقَلته أوزارُها.. جلس ينظر إلى زوجته وأولاده وبناته المكومين داخل الخيمة كحطب الدُّفْلى، ويفكر بصغاره وبأسمالهم وبما يقدمه لهم غير الخبز القديد في صبح العيد..
تناوبت على بهيجة المخاوف والمغريات.. دار المرء حياته.. لم تجد منذ تلك الليلة التي غادرت فيها الدار طعماً للراحة، ولا شُفي قلبُها من وجع، ولا ارتاحت في نوم.. كل ما تعنيه لها الدار، وما تركته فيها، حضر بقوة كأنما شد شعر رأسها وأيقظ عزمها وحرك كل خلية في جسدها.. أيقظت الأولاد ولم تكن مضطرة لإلباسهم ملابسهم فهم ينامون فيما لديهم منها فهي للنوم والصحو والمشي والركض والحر والقر. ترتيب أمر المغادرة الذي قرره أبو سعيد أمر يسير فلا يوجد في الخيمة ما يستدعي أن يُحْمَل عدا ضروريات للطريق..
في المدى الصباحي البهيم سار الركب الأُسروي نحو القرية ـ الدار، [كبار الصغار فرحوا عندما عرفوا الوَجْهة، والصغير، آخر العنقود، كان يتثاءب ويطلب أن تحمله أمُّه.]
حمل أبو محمد سعيد ما يجب حَملُه وسار أمام زوجه وأطفاله، ناشداً داره وأسرته الكبرى هناك في القرية التي نَبَتَ فيها ويحنُّ إليها وإلى ترابها وأهلها حنين النُّوق.. الحياة هناك، والعيد هناك، والفرح هناك، وكل شيئٍ هناك. في الدَّرب الطويل كانت تراوده الأحلام، فيحُثّ خطاه إلى عالمها.. سيستدين من معارفه ويشتري خروف العيد ويضحي لوجه الله، شكراً وتفاؤلاً بما سيكون عليه الحال في القرية من أمن وكرامة وراحة بال بين الأهل والأصدقاء والعيال.. أول ما سيقوم به، بعد تنظيف البيت، هو أن يُحَمِّص القهوة بالمِحْماسَة، ويطرب على إيقاع دقِّها في الجُرن الخشبي المصنوع من خشب الزيتون والمَنقوش بنقوش تراثية تروق له، " المِهباج" صديق عُمره وآلته التي اعتاد أن يوقِّع عليها ألحانه قبيل شروق الشمس ليهيئ القهوة المُرة بالهيل، ويشرب.. ويشرب حتى يعتدل مزاجه، ويلتقي حولها مع رَبْعِه؟!
بعد سفر شاق وتعب وصل إلى مداخل القرية مُنهكاً، كانت تتراقص هناك خيالات أو أشباح لحال ليس هو الحال.. صدَمَه ما شاهد في مداخلها من دمار، بعض سقوف المنازل تلامس الأرض.. نَزَغَه الخوف وبدأت هواجس سوداءُ تغزوه وتوقّعاتٌ تنغَل في صدره، هل هذا الحال هو حال القرية كلها، هل هذا حال داره وحال أهله وجواره؟!..
تابع سيره على أرضية القلق والشّوق والأمل.. الدَّار قريبة وسيرى بعينيه، وسيرتاح هناك كيفما كان الحال. في الطريق إليها كانت بعض الحجارة وشُقَفُ الإسمنت وقضبان حديد البناء تتناثر.. تلمَّس مفتاح باب داره وأمسكه بأصابعه من دون أن يخرجه من جيبه. أخيراً وصلَ، وقفَ أمام ما كان باباً لداره، ارتخت أصابعه القابضة على المفتاح في جيبه.. لا حاجة للمفتاح، لا يوجد باب للدار، الباب الحديدي غير موجود، أتُراه هرب من شدَّة القصف والرعب كما هربنا؟! لكن الحديد لا يخاف ولا يهرب، كان الباب الحديدي العتيد صامداً عندما غادرنا الدار، لقد تأكَّدَتُ من ذلك حين أغلقته بيدي ووضعت المفتاح في جيبي.
فاجأه جارُه عبد الله "أهلاً أبو محمد سعيد.. الحمد لله على السلامة يا جاري.. الحمد لله على كل حال" بالمال ولا بالعيال يا أبو محمد."، الحمد لله على السلامة.. الحال من بعضه يا جار الخير.".. غَصَّ عبد الله بريقه وتوارى ليواري دمعه الذي كاد يغلبه.
دخل أبو محمد سعيد ومعه أفراد أسرته إلى دارهم "الحُلُم"، فكانوا في مساكن أشباح.. شجرة التوت ذاوية، في قُرَن الدار أشواكٌ لاوية رؤوسها، خابية الماء متشقّقة من الجفاف.. جال في المَضافة، في الغُرَف، صعد إلى العِلِّيَّة.. لم يبق شيئٌ الفرشات واللحف والبسط وكل شيء غير موجود، لا شيء على حاله.
كانت صدمته قاسية حين لم يجد دَلات القهوة والفناجين ووجد جُرن القهوة الخشبي المنقوش، "المهباج" صديق عمره، مكسوراً.. لا يوجد أي شيء يمكنه من تهيئة القهوة المُرَّة بالهيل، قهوة العيد.. حَزِن، دار دورة أخرى في الدار، فتح صنبور الماء، "لا ماء"، وضغط على زر الكهرباء، "لا كهرباء".. لا فرن ولا جرن ولا غاز.. لا حول ولا قوة إلَّا بالله.. لقد جاء ليعيِّد في داره ويشارك أهله وأناسه وأبناء قريته فرحَاً طال غيابه.. لكن.. لا ماء ولا بهجة ولا سلامات ولا ابتسامات ولا زيارات ولا تهليل ولا تكبير.. فهل بلا صلاة وبلا أضحية وبلا قهوة مُرَّة، وبلا.. وبلا.. وبلا.. يكون عيد..؟!
حار أبو محمد سعيد في أمره، ماذا يفعل وكيف يتصرف ولمن يلجأ.. قالت أم محمد بعد صبر وصمت طويل وذهول وذبول وتنهيدة عميقة وحسرة أذرَفت دمعها: "يا رجَّال لا بد من أن نفعل شيئاً، الأولاد جَوعى وعِطاش، الأولاد لا يصبرون.. المَاء على الأقل، لا بد من ماء، لا حياة بلا ماء.".. هَمهم أبو محمد سعيد بكلام غير مفهوم، وخرج في الهاجِرَة يبحث عن ماء لأطفاله العِطاش.. ونفسه تحدثه بأنه عاد إلى الدار التي يُحب، والدُّور يُعمرها أهلها، وأن أطفاله الذين ربما يفوتهم هذا العيد سيَصنعُ لهم أعياداً، ففي دار المرء يمرعُ الأمل وتُسْتَنْبَتُ الحياةُ.. مشى وسأل من صادفهم: "أين يجد ماء لأطفال عِطاش؟!"، كل من سألهم قالوا: "الوضع صَعب، هناك مَن يبيع المَاء بثمن غالٍ لكن لا أحد منهم هنا الآن.. يوجد ماء في بعض القُرى لكن الأمر يحتاج إلى سيارة أو "تراكتور" مع صهريج.".
آخر من سأل من أهل القرية قال له: "اسأل الحاجز في الطرف الغربي من القرية فربما.. ربما."، لم ينتظر أبو محمد لحظة واحدة.. قصدَ الحاجز، وتهلل للواقفين فيه واقترب منهم.. صوَّب إليه أحد حراس الحاجز بندقيته فارتعد ورفع يديه، اقترب منه آخر وفتَّشه وسأله: من أنت؟! أجاب بسذاجة: "أنا أبو محمد سعيد من الحارة القِبْليَّة، أبحث عن ماء لأولادي".. سَخِرَ منه الجندي الذي فتَّشه: "أترى عندنا بئر ماء؟!.. هل أنت غبي أم تَتغابى."؟! قال آمر الحاجز الذي كان يتابع ما يجري: "هذا منهم.. كَتِّفه وأرسله إلى هناك، هم سيتعاملون معه".
مضت أيام العيد وأم محمد تنتظر عودته إلى الدار لكنه لم يعد، وانقطعت أخباره.