كتاب عربي 21

حظوظ الوساطة التركية بين روسيا وأوكرانيا

علي باكير
1300x600
1300x600


في الأسبوع الأخير من شهر شباط (فبراير) الماضي، شنّت روسيا حرباً شاملة ضد أوكرانيا. وضعت هذه الحرب تركيا في موقف صعب لناحية التوقيت والمضمون. تتمتع أنقرة بعلاقات جيدّة مع الطرفين، وهي تحاول منذ العام الماضي إعادة ترتيب أوراقها الإقليمية بما يتماشى مع المتغيرات التي طرأت ويسمح لها بتسييل إنجازاتها العسكرية على شكل مكاسب سياسية واقتصادية. أدّت الحرب الروسية إلى استقطاب شديد على المستوى الدولي ورفع أسعار الطاقة وتهديد سلاسل توريد الغذاء. لقد كانت تركيا مطالبة باتخاذ موقف منحاز الى أي من المعسكرات المتناحرة، لكن لاعتبارات مصلحيّة استراتيجية آثرت ان تتّخذ مواقفها الخاصة.

حسابات تركيا الاستراتيجية تقول إنّ انتصاراً روسيا على أوكرانيا، سيحسّن من موضع موسكو الدولي والإقليمي، وسيكون لذلك عواقب وخيمة على أنقرة. روسيا ستكون في موقع أفضل للضغط على أنقرة حينما يتطلب الأمر ذلك وقد تهددّها في البحر الأسود وتقوّض من مكاسبها في القوقاز وآسيا الوسطى وسوريا وشمال أفريقيا. في المقابل، فإنّ هزيمة روسيّة كبيرة في أوكرانيا لن تكون بالضرورة مفيدة لأنقرة، ذلك أنّ تركيا قد تفقد حينها ورقة المساومة و/أو الموازنة مع الغرب، وهو ما يعني أنّ مساحة المناورة المتاحة لها ستتقلّص، وأنّ وضعها سيكون حرجاً في مواجهة أي ضغوط مستقبلية غربيّة.

أمام هذا الوضع، دفعت تركيا باتجاه الوساطة منذ بداية الأزمة، ورفضت الالتحاق بالعقوبات الغربية ضد موسكو، لكنّها قامت باستخدام حقها في تقييد التحرّك العسكري الروسي عبر المضائق التركية باتجاه البحر الأسود بالاستناد إلى ما تتيحه لها اتفاقية مونترو، كما قامت بإرسال المزيد من المسيرات القتالية إلى أوكرانيا، وهي مسيّرات أحدثت فارقاً في المواجهة بين موسكو وكييف ورفعت من حجم الخسائر البشرية والعسكرية الروسية بشكل كبير.

تؤكّد هذه الخطوات على أنّ تركيا ليست مجرّد تابع للغرب، وأنّ لها حسابات قد تكون مختلفة، وأنّ على الجميع مراعاة واحترام مصالحها. في المقابل، أتاحت هذه السياسة لتركيا الإبقاء على مسافة معقولة من روسيا وعلى تجنّب تداعيات فرض أي عقوبات محتملة عليها، كما أنّها أتاحت إبقاء الأمل في أن تلعب تركيا دور الوسيط في الأزمة. في بداية الحرب، تجاهلت روسيا الدعوات التركية تماماً، وأصرّت على أن تكون بيلاروسيا، الدولة التي تدور في فلك موسكو، مكاناً للمفاوضات مع أوكرانيا.

 

 

ما أن بدأت روسيا تغرق في أوكرانيا حتى تبدّلت حساباتها وتقلّصت أهدافها العسكرية، وبدا أنّ موسكو تبحث عن سلّمٍ للنزول من أعلى الشجرة التي صعدت عليها.

 

 



المفاوضات التي كانت روسيا تريدها هي أشبه بفرض شروط الاستسلام على أوكرانيا. قالت روسيا إنّها تريد من كييف أن تكون من دون سلاح، وأنّ تتّخذ موقف الحياد، وأنّ تجعل ذلك جزءاً أصيلاً من دستورها، وأن تتخلى عن دونباس، وأنّ تعترف لروسيا بأحقّية شبه جزيرة القرم، وأن تغيّر النظام السياسي إلى نظام فيدرالي يتيح للأقاليم صلاحيات أكبر ـ ما يعني نفوذاً روسياً أكبر ـ، وغيرها من الشروط التعجيزيّة دون أن يكون لأوكرانيا حق المطالبة بأي شيء باستثناء وقف الحرب.

ما أن بدأت روسيا تغرق في أوكرانيا حتى تبدّلت حساباتها وتقلّصت أهدافها العسكرية، وبدا أنّ موسكو تبحث عن سلّمٍ للنزول من أعلى الشجرة التي صعدت عليها. اكتسبت المبادرة التركية للوساطة في هذه الحالة أهمّية أكبر، فكان أوّل اجتماع رفيع المستوى بين مسؤولين من روسيا وأوكرانيا في مدينة أنطاليا التركية، وذلك على هامش منتدى أنطاليا الدبلوماسي الذي انعقد في الفترة من 18 إلى 20 مارس، حيث جلس وزيرا خارجية البلدين مع بعضهما البعض مباشرة. لكنّ المفاوضات لم تسفر عن شيء ذلك أنّ وزير الخارجية الروسي، لافروف، لم يكن يمتلك الصلاحيات اللازمة لمناقشة أي شيء بشكل جدّي. لقد كان الاجتماع الصغير بمثابة إنتصار دبلوماسي تركي، كما أنّه أتاح إنشاء قناة دبلوماسية بين الأطراف المعنيّة في وقت فشل فيه الآخرون من الوصول إلى هذه النقطة. 

وفي 30 آذار (مارس) الماضي، إجتمع الوفدان الروسي والأوكراني لأوّل مرة في إسطنبول لمناقشة مطالبهما بشكل جدّي. إستمر الاجتماع قرابة الأربع ساعات، وأشارت تصريحات المسؤولين الاتراك الى حصول بعض التقدّم في المواضيع التي نوقشت. وبالرغم من أنّه لم يتم عرض هذه المواضيع بشكل علني، إلا أنّ بعض التقارير الصحفية تحدّثت عن ستة مواضيع أساسية هي: الناتو، نزع جزئي لسلاح أوكرانيا، الأمن الجماعي، اللغة الروسية في أوكرانيا، ومستقبل شبه جزيرة القرم، ودونباس. 

وبالرغم من أنّ غياب تفاصيل المفاوضات عن الإعلام قد يتيح فرصاً أكبر لنجاح الطرفين، إلا أنّه لا يزال من المبكّر رفع سقف التوقعات أو المبالغة في تقييم حظوظ الاتفاق بين الطرفين. ما يحاول الجانب التركي فعله هو أن يؤمّن لموسكو السلّم الذي تستطيع النزول منه إلى الواقع في مقابل تأمين الضمانات الأمنيّة اللازمة لأوكرانيا لمنع تكرار أي تهديد روسي لأمن كييف مستقبلاً. هذه معادلة صعبة للغاية، ومن السذاجة بمكان الاعتقاد بأنّ الطرفين سيتوصلان إلى حلول سريعة، ما لم يكونا قد ناقشاها بعمق. 

تفترض هذه الظروف أنّ ما يتم البحث عنه هو تسوية تحفظ ماء وجه روسيا وتضمن لأوكرانيا أمنها. تسوية تستطيع كل من موسكو وكييف تسويقها لدى جمهور كل منهما على أنّها انتصار، وعلى أنّها تخدم الهدف النهائي لكل منها. هناك حالة واحدة فقط تستطيع أن ترفع من حظوظ الجهود التركية في التوصل إلى مثل هذه التسوية وهي تعثّر روسيا داخل أوكرانيا، وإبقاء الضغط قائماً على موسكو خلال المفاوضات. حتى الآن، تشير المعطيات إلا أنّ الحالة متحقّقة، لكن ما لم يكن هناك نيّة لتصعيد روسي في حال فشل المفاوضات، فإن إمكانية التوصل إلى تسوية ستكون أعلى خلال المرحلة المقبلة.


التعليقات (0)