هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
العالم في هذه الأيام يشبه نفسه، يعيد تكرار الحكايات القديمة بنفس الجشع والغباء والذهاب إلى الموت عبر الطرق الرديئة، من المبكر صدور مؤلفات عن "صليل الصوارم" في نسختها "البوتينية" الروسية، لكن أي عاقل بسيط سيدرك على الفور تشابه الخطوط الرئيسية في الحرب الأوكرانية مع الحرب العراقية "البوشية" الأمريكية، لكن ردود الفعل لا تتشابه، ما يذكرنا بأشعار "كيبلنج" عن الشرق الذي لن يلتقي مع الغرب أبداً، على كل حال فإن الحديث في السياسية لن يفيدنا كثيراً في هذه المرحلة التي يشبه فيها العالم "صرصور مقلوب على ظهره"
والتعبير مأخوذ من ملاحظات شعبية وعلمية عن موت الصرصور الحتمي إذا انقلب على ظهره لأنه لا يستطيع أن يعتدل ويعود إلى حالته الطبيعية، أو أنه ينقلب كمقدمة تنبيئ بالموت، أيا كانت التفسيرات فإن التعبير يجمع بين "الانقلاب" وبين اقتراب نهاية حياة أو مرحلة من الجانب الثقافي ورد التعبير في ديوان شعر مصري بعنوان "أنا في عزلته" للشاعر ابراهيم البجلاتي، حيث أنشأ يقول:
"ماذا يفعل صرصار مقلوب على ظهره بين الصالة والمطبخ؟
لا أعرف بالضبط/ الاحتمالات ليست كثيرة جدا/ من بينها: أنه سيكون ممتنا لجيش صغير من النمل/ يسحبه باتجاه الحائط/ وربما يرش على جحيمه الخاص/ قليلا من السكر"
فقد كان بوش يصنع الديموقراطية في العراق ويحمي حقوق الإنسان في سجون أبو غريب، كما يحمي بوتن رعاياه المنشقين المضهدين في القرم وأخواتها ويحافظ على أمن بلاده القومي.
القصة مكررة، لكنها تصلح للكتابة والنقاش والحكايات في كل نسخة لها
الحكاية اليوم كما قلت ليست عن الحرب، وليست عن "دكتور بوتن ومستر هايد"، لكنها عن الدكتور البجلاتي نفسه (صاحب لقطة الصرصار المقلوب على ظهره).
البجلاتي يعيش وحيدا وسط الزحام، تائها في عزلته، يبيع الوجع للأصحاء، ويوزع على المرضى زهور الشفاء، يبوح بصمت معتم، يقول ولا يقول، يخفي الحكايات التي يريد، ويحكي ما لا يريد.
لا أعرف هل إبراهيم البجلاتي هنا فعلا؟، أم أنه في عالم بعيد/ قريب؟ تراه لكنك لا تستطيع أن تلمسه، ربما يكون طيفاً غير واقعي، وربما يكون هو الواقع في أصدق تجلياته اليومية، ربما يكونا غريباً، وربما يكون أنت أو هؤلاء، فهو الغموض الذي نعرفه ولا نعرفه، التفاصيل التي نعيشها بانهماك لكننا لا نراها إلا عندما يحكي عنها غيرنا، البجلاتي طبيب لا يشبه الأطباء، وشاعر لا يشبه الشعراء، قد يكتب نصوصًا تشبه الشعر، لكنه لا يشبه أحدا، وشعره أعصى من أن يرضاه ناقد أو يحيط به قارئ، أو يحتويه إطار.
عندما كان يافعا في مقتبل العمر اشترى نسخة مبسطة من "كليلة ودمنة" وعندما قرأها قرر أن يكون روائيا ليحكي القصص، ثم وقع بعد فترة على ديوان للملاح التائه علي محمود طه فتعرف على لذة الشعر، وعندما قرأ أشعار صلاح عبد الصبور قال: هذا دربي.. هذا أجمل، وانطلق يكتب أشعاراً في الغزل الصبياني وهو لا يزال في المرحلة الثانوية، لكن غرام الصبيان انسحب أمام أعباء الدراسة في كل الطب وظروف العمل كطبيب جراح.. مسالك الناس يداويها، وغواية الشعر يداريها، لكنه لم يقدر على مقاومة غرامه بالكتابة، فترجم كتاب "تاريخ الطب" ضمن إصدارات سلسلة "عالم المعرفة" بالكويت في عام 2002، وفي العام التالي نشر ديوانه الأول "تدريب على المنظر الطبيعي" عن "دار ميريت" بالقاهرة، وتلاه بديوان "البحر الصغير"، لكن الاستقبال الإعلامي والنقدي للشعر لم يكن بالصورة التي تمناها الطبيب الشاعر، فقد كان الجميع يتحدث عن موت الشاعر لصالح بزوغ "عصر الرواية"، وتوقف البجلاتي لسنوات انشغل فيها بالسفر والعمل في المستشفيات، ثم أخذته التأملات إلى الأحلام الأولى فارتد إلى ذكريات الحكي وتأثيرات "كليلة ودمنة" فنشر روايتين: "سيندروم" و"كلب المعمل".
لكن يبدو أن عصر الرواية أيضا كان قد انتهى، فالاستقبال الثقافي بارد ومحبط، فقرر البجلاتي أن يدخل في عزلة التأملات الفلسفية والشعرية للحياة، وهي الفترة التي أسفرت عن ديوانه البديع الذي جمع فيه بين الشعر والرواية معا، وهو ديوان "أنا في عزلته"، وهذه المرة لم يهتم الشاعر بأعداد النس المباعة ولا تفاعل النقاد أو اهتمام الإعلام، بل قرر أن تكون كتابته للقصائد ذاتية، ينشرها على "فيس بوك"، ويتركها للتاريخ من غير أن يقيم ما يكتب بعدد المتابعين، واصدر بعد ذلك عدة دوايين منها: "حكاية مطولة عن تمساح نائم"، وهذا الديوان يشبه في دوافعه "حكاية الأمير السعيد" لأوسكار وايلد، حيث كتبه البجلاتي كحكايات قبل النوم (حواديت) لطفله النابه "سليم" أو كما يناديه "الأمير سولي"، وبعده أصدر ديوان "وماذا يفعل الرومانسيون غير ذلك"، ثم جاءت مرحلة الوباء ولم يعد البجلاتي وحيدا في عزلته، فقد دخل العالم عزلة اضطرايرة بسبب "كوفيد 19" فكتب البجلاتي ديوانه "شاي وبرتقال وأجنحة خضراء" الذي يسجل فيه يوميات الإنسان السجين في عالم مريض، والديوان يذكرنا بما كتبه جيوفاني بوكاتشيو عن الطاعون في رائعته "ديكاميرون".
وفي هذا المقال أقدم لكم بعضا من الملاحظات التي كتيها الطبيب ابراهيم البجلاتي في بطاقة الحالة الصحية المعلقة على سرير عالم مريض، كما وردت في دوانه "أنا في عزلته"
نعرف بعضنا منذ زمن طويل/ هو نصفي الملحد وأنا نصفه التائب
كنبيلين من أصحاب المهن المنقرضة/ جلسنا في ظل شجرة كبيرة/ أشعل كل منا سيجارة الآخر/ ونفث دخانها إلى أعلى/ كأنه يلضم خيطا في إبرة/ أصلها في الأرض/ وسنها مرشوق في سحابة عابرة
فيما يشبه حكاية حزينة لا تجلب النوم/ أكد لي أنه سيصحو ذات يوم وقد نبت له جناحان/ لن يعرف كيف يطير بهما/ سيطويهما/ ويقعد على حرف الشباك مثل بومة/ تتأمل الفراغ.
دائما/ يريد أن يكون في مكان آخر/ جرب أكثر من مدينة وأكثر من بلد/ ليس ملولا بطبعه/ بل كان يقعد/ يحفر ظله في المكان/ ويعطي المكان فرصة أن يكون مكانا آخر/ لا ينجح المكان بالطبع/ ولا يستطيع هو أن يكون شخصا آخر.
لا يحب النهايات السعيدة/ لا يحب النهايات أصلا/ فهو يعتقد أن الحياة مستمرة إلى الأبد/ وأن الله لن يأخذه/ ووراءه هذه الكومة الهائلة/ من الأشياء التي بدأها ولم ينته منها/ هل كان خائفا وهو يمدح الكسل؟/ ربما/ وربما كانت المسألة كلها مجرد غباء.
قام من النوم بعين سوداء وأنف مكسورة/ فقد ردود أفعاله السريعة/ صار جادا للغاية/ غبيا/ وخجولا مثل بنت شرقية تخفي ليمون صدرها بانحناءة/ هو نفسه انحنى/ وصار بإمكانه أن يقضي نهارا كاملا في حل أحجية بسيطة/ مثلا: ما هو المشترك بين الناس والأسماك؟/ زعنفة الظهر/ أم العيون الميتة؟.
في الصباحات البعيدة/ البعيدة جدا/ اعتدت أن أصحو – رغم عذاب الليل – بمزاج معتدل/ وفي الأغلب كنت أردد أغنية ما/ وأنا أحلق ذقني/ وأنا أشرب القهوة/ وأنا أخرج/ وأغلق الباب ورائي .... الآن أصحو صامتا/ مثل ذئب وحيد في البراري.
قبل ثلاثين عاما/ حاولت أن أكتب شيئا عن الحزن/ دون ذكر الكلمة نفسها/ وفشلت/ لو نجحت في ذلك وقتها/ لما احتجت إلى تنظيف رئتي من الهواء الآن.
أحب عصير البرتقال في الشرفة/ ليس هذا أوان البرتقال/ وليس لدي شرفة/ لدي الكثير من الشاي والكسل/ وأمل ضعيف أن تحبني امرأة كما أنا
يا إلهي / لا أريد أن أتعلم الرقص/ أو المشي على الماء أو كسر الزجاج/ أريد أن أكون شريرا لبعض الوقت
لو كانت ذراعي قوية/ لاشتغلت نحاتا/ يثبت الزمن/ بضربة إزميل في الحجر ..... لو كانت ذراعي أقوى/ لاشتغلت عتالا في ميناء/ لأحلم دائما بالضفة الأخرى.
لا أحب البقاء هنا/ ولا أعرف إلى أين أذهب
انتهت المقتطفات لكن لم ينته التأمل، راجعها أو راجع بعضها مع ذاتك، ربما تردد أنت أيضا نفس الكلمة التي يرددها معظم العائشين على الأرض الآن:
لا أحب البقاء هنا/ ولا أعرف إلى أين أذهب.