قضايا وآراء

ماذا يعني دمغ دولة الاحتلال بـ"الأبارتهايد"؟

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
في زمن اختلال الموازين السياسية الدولية، تظل هناك بقية من الضمير الأخلاقي العالمي التي تمنح الأمل بإمكانية تحقق العدالة للشعوب المظلومة..

هذا ما يستقر في النفس مع مطالعة تقرير منظمة العفو الدولية الصادر بداية شباط/ فبراير 2022 والمكون من 280 صفحةً، والذي بيَّن بالتفصيل مظاهر التمييز العنصري الذي تمارسه دولة الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني.

ترجع أهمية تقرير العفو حول نظام الأبارتهايد الذي تمارسه دولة الاحتلال إلى الأهمية المعنوية والقانونية التي تحظى بها هذه المؤسسة دولياً، وقد اتسم التقرير بارتفاع سقف الجرأة والوضوح والشمول في الحديث عن دولة الاحتلال، حيث أثبت التقرير أن سلطات الاحتلال تعامل الفلسطينيين على أنهم مجموعة عرقية أدنى من العرق اليهودي، وأن إسرائيل تنظر إلى الفلسطينيين بأنهم خطر ديموغرافي، وأن هذا التمييز العنصري ترسخه دولة الاحتلال من خلال القوانين في كافة أماكن تواجد الفلسطينيين بين البحر والنهر.

ويحسب للتقرير شموله كافة مكونات الشعب الفلسطيني بما في ذلك اللاجئون خارج حدود فلسطين التاريخية، حيث أشار التقرير إلى استمرار منع المهجرين قسرياً من العودة إلى بلداتهم الأصلية، وأن هذا المنع من قبل دولة الاحتلال يمثل انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي.
ترجع أهمية تقرير العفو حول نظام الأبارتهايد الذي تمارسه دولة الاحتلال إلى الأهمية المعنوية والقانونية التي تحظى بها هذه المؤسسة دولياً، وقد اتسم التقرير بارتفاع سقف الجرأة والوضوح والشمول في الحديث عن دولة الاحتلال، حيث أثبت التقرير أن سلطات الاحتلال تعامل الفلسطينيين على أنهم مجموعة عرقية أدنى من العرق اليهودي، وأن إسرائيل تنظر إلى الفلسطينيين بأنهم خطر ديموغرافي

وحثَّ التقرير المجتمع الدوليَّ على تجاوز الإدانات اللفظية للسياسات الإسرائيلية، والعمل على تفكيك نظام الفصل العنصري الإسرائيلي.

هذا التقرير ليس الأول من نوعه، فقد سبقته في الأشهر والسنوات الأخيرة تقارير أصدرتها منظمة هيومان رايتس ووتش ومنظمة الأسكوا التابعة للأمم المتحدة، بل حتى منظمة بتسيلم الحقوقية الإسرائيلية، وكل هذه التقارير خلصت إلى ذات النتيجة أن هناك نظام أبارتهايد صارخا تمارسه إسرائيل في فلسطين التاريخية بين البحر والنهر..

هذه التقارير تأتي في لحظة ضعف وتشظٍّ عربيةٍ وفلسطينية، فهناك انعدام لأي إرادة رسمية من السلطة الفلسطينية لمقاومة الاحتلال حتى بالطرق السلمية والقانونية والدبلوماسية، ولو كانت السلطة الفلسطينية متماهيةً مع القضية الوطنية لشعبها لاستثمرت مثل هذه التقارير في المحافل الدولية واتخذت منها وقوداً لرفع سقف نديَّتها في التعامل مع الاحتلال، لكن من الواضح تماماً أن السلطة لا تملك الإرادة للتفريط بشبكة مصالحها الشخصية والأمنية التي ارتبطت مصيرياً بالاحتلال.

عربياً، فهناك حالة غير مسبوقة من التماهي الفجّ بين الأنظمة المستبدة وبين مشروع الاحتلال، وتهافت على التطبيع، وما كنا ننكره في الموقف العربي قبل عشر سنين من اكتفائه بالتضامن اللفظي مع الحقوق الفلسطينية والإدانة اللفظية لجرائم الاحتلال لم يعد متوفِّراً، فلم تعد الأنظمة العربية في نسخة ما بعد الثورات المضادة تخجل من التعبير السافر عن التقارب مع حكومة الاحتلال، مقابل تنكر فج وصريح للحقوق الفلسطينية.
عربياً، فهناك حالة غير مسبوقة من التماهي الفجّ بين الأنظمة المستبدة وبين مشروع الاحتلال، وتهافت على التطبيع، وما كنا ننكره في الموقف العربي قبل عشر سنين من اكتفائه بالتضامن اللفظي مع الحقوق الفلسطينية والإدانة اللفظية لجرائم الاحتلال لم يعد متوفِّراً

هذه العوامل الفلسطينية والعربية تضعف القدرة على استثمار ارتفاع الوعي الأخلاقي العالمي الذي تعبر عنه هذه التقارير المتعاقبة، لكن هوان الموقف العربي لا ينال من القوة الذاتية التي تتضمنها هذه التقارير.

وصم إسرائيل بأنها دولة تمييز عنصري يمثل سبب قلق حقيقي في مؤسسات الاحتلال وقادته، ذلك أن هذه الصفة تهزُّ الصورة التي كرَّست إسرائيل كل قدراتها الدعائية لتثبيتها في الوعي العالمي، وهي صورة أنها دولة طبيعية يحقُّ لها ما يحق لدول العالم من الاستقرار والازدهار، وأن هذه الدولة هي ضرورة أخلاقية لليهود الذين تعرَّضوا للإبادة، ومن حقهم أن يكون لهم وطن آمن محصن من التهديدات كما لكل شعوب العالم.

وصم إسرائيل أنها دولة أبارتهايد يستدعي مباشرةً في الوعي العالمي المقارنة مع نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا؛ الذي نبذه العالم أخلاقياً وتمَّت مقاطعته وانتهى به المآل إلى السقوط عام ١٩٩٤.

نظم الأبارتهايد بالضرورة غير مستقرة، ووصم إسرائيل بهذه الصورة ينزع الثقة في مستقبل هذه الدولة وقدرتها على الاستقرار الحقيقي كما تفعل الدول الضاربة في جذور التاريخ.

على الأقل في المستوى النفسي فإن تثبيت وصف إسرائيل بأنها أبارتهايد يجعل العالم أكثر تقبلاً لفرضية أن هذه الدولة ليس لها مكان في المستقبل، ويشعر هذا الدمغ المواطن الذي يعيش في هذه الدولة بعدم الاستقرار النفسي والأخلاقي.
نقل النقاش إلى فلسطين التاريخية يعني أن المشكلة لم تعد تتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، وأن هناك توتراً أو نزاعاً حدودياً، بل يعني أن هناك مشكلة جوهرية في كيان إسرائيل ذاته

من المهم أيضاً في هذه التقارير ملاحظة أنها تنقل النقاش من حدود عام ١٩٦٧ إلى حدود فلسطين التاريخية (من النهر إلى البحر)، وهذا عامل قوة للفلسطينيين وعامل قلق إضافي لإسرائيل.

نقل النقاش إلى فلسطين التاريخية يعني أن المشكلة لم تعد تتعلق بالأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٦٧، وأن هناك توتراً أو نزاعاً حدودياً، بل يعني أن هناك مشكلة جوهرية في كيان إسرائيل ذاته، في ضوء أن حوالي ٢٠ في المائة من "المواطنين الإسرائيليين" (وهم فلسطينيو الداخل المحتل عام 1948) هم جزء أساسي من الشعب الفلسطيني، وهم في ذات الوقت واقعون تحت سياسات التهجير والتمييز العنصري الإسرائيلية.

هذه النقلة في ميدان الصراع تمثل تصحيحا تاريخيا لخطيئة أوسلو التي حصرت المطالب الفلسطينية عملياً في حدود الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد ظهرت في الأشهر الأخيرة مزيد من المؤشرات حول ازدياد فاعلية انخراط "فلسطينيي إسرائيل" إلى جانب إخوانهم في قطاع غزة والضفة في مقاومة نظام الأبارتهايد الإسرائيلي.

من أبرز هذه المؤشرات المشاركة الواسعة لفلسطينيي داخل الخط الأخضر في أيار/ مايو ٢٠٢١، بالتزامن مع المواجهات في غزة والقدس والضفة، وكذلك الاشتباكات بين البدو الفلسطينيين في النقب وقوات الاحتلال في كانون الثاني/ يناير الماضي، احتجاجاً على سياسات التهجير والتهويد التي تمارسها سلطات الاحتلال الإسرائيلي بحق الوجود الفلسطيني في النقب.
الوضع المثالي هو أن يتزامن هذا الوعي الحقوقي العالمي بغطاء سياسي ينصر الحقوق الفلسطينية ويحضر قادة دولة الاحتلال إلى المحاسبة والعقاب، ولو كان هناك عدل في العالم لتبعت هذا التقرير مقاطعة شاملة

وقد أشار تقرير العفو الدولية بالتفصيل إلى مثال النقب؛ كونه يمثل تجسيداً على السياسات الإسرائيلية الممنهجة في تهجير الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم والتمييز العنصري بحقهم.

الوضع المثالي هو أن يتزامن هذا الوعي الحقوقي العالمي بغطاء سياسي ينصر الحقوق الفلسطينية ويحضر قادة دولة الاحتلال إلى المحاسبة والعقاب، ولو كان هناك عدل في العالم لتبعت هذا التقرير مقاطعة شاملة في العلاقات السياسية والاقتصادية والعسكرية مع هذا النظام العنصري.

لكن هذه التقارير تعزز ثقتنا بأن الأمور تمضي في وجهتها التاريخية الصحيحة، وأن دولةً بنيت على سياسات التهجير والطرد والظلم والعدوان، فإنها دولة غير طبيعية مهما تقادم بها الزمن أو امتلكت من أدوات البطش والغطاء السياسي والعسكري، وأن الضعف الفلسطيني الراهن يجب ألا يدفع بنا إلى اليأس، فإن أضعف الإيمان في علاقة المضطَهَد بالمضطهِد هو أن يرفض التأقلم معه والتسليم بظلمه.

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)