اقتصاد عربي

كيف تنعكس أزمة الحبوب في تونس على أمنها الغذائي؟

بلغيث: لا يمكن للدولة أن تنجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي دون دعم الفلاح ورفع سعر شراء القمح- الأناضول
بلغيث: لا يمكن للدولة أن تنجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي دون دعم الفلاح ورفع سعر شراء القمح- الأناضول

ظلت تونس إلى حدود سبعينيات القرن الماضي قادرة على تحقيق اكتفائها الذاتي، تقريبا، من الحبوب من خلال إنتاجها المحلي حيث لم يتجاوز معدل استيراد الحبوب حينها الـ4.3 مليون قنطار (القنطار التونسي يعادل 100 كيلوغرام).

وفي الفترة الأخيرة، تواترت الأخبار حول بواخر محملة بالحبوب، لم يتم تفريغها من الموانئ بسبب تأخر الدولة في دفع مسحتقات الموردين، تزامن ذلك مع نقص المواد الغذائية الأساسية المشتقة من الحبوب في الأسواق.

وتعرف تونس أزمة اقتصادية غير مسبوقة، تسببت في تقليص ترقيمها السيادي وتصنيفها من الدول التي قد تواجه صعوبات في سداد ديونها الخارجية، خاصة في ظل تعرقل الاتفاق مع صندوق النقد الدولي.

وتعيش تونس أيضا، تراجعا في احتياطي العملة الصعبة بما يؤثر سلبا على قدرتها في توفير حاجياتها المستوردة.

في ظل هذه الصعوبات، تتزايد مخاوف التونسيين من تواصل أزمة الحبوب وانعكاساتها على الأمن الغذائي للبلاد.

ارتفاع معدلات الاستيراد

وعرف الميزان التجاري الغذائي في تونس لسنة 2021 عجزا قيمته 1946.4 مليون دينار تونسي (الدينار التونسي يساوي 0.35 دولار أمريكي)، مقابل 859.4 مليون دينار سنة 2020. ومن الأسباب الرئيسية للعجز، ارتفاع حجم توريد الحبوب بنسبة 25.9%، بحسب أرقام ديوان وزارة الفلاحة والموارد المائية.

وتشير أرقام ديوان الحبوب إلى زيادة كبيرة في حجم توريد الحبوب حيث ارتفع بين سنتي 2011 و2020 من 15,706 آلاف قنطار إلى 27,538 ألف قنطار.

وتحتل تونس مراتب متقدمة ضمن الدول المستوردة للحبوب في العالم.

ويشير شكري الرزقي عضو المكتب التنفيذي للاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري إلى أن نسبة اعتماد تونس على الاستيراد لسد حاجتها من القمح بلغت حوالي 57.5 في المئة خلال الأعوام من 2008 إلى 2018.

ويضيف في تصريح لـ"عربي21" أن الإنتاج المحلي من القمح اللين لا يغطي سوى 30 بالمائة من حاجيات التونسيين من الحبوب".

وتبلغ حاجيات تونس من الحبوب حوالي 33 مليون قنطار سنويا، منها 12 مليون قنطار قمح صلب و12 مليون قنطار قمح لين و9 ملايين قنطار من الشعير، وفق الرزقي.

ويضيف أن "السياسات الخاطئة، وارتفاع استهلاك التونسي للحبوب، بالاضافة إلى النمو الديمغرافي كان من أهم أسباب ضعف تغطيتنا لما نحتاج من الحبوب".

إنتاج محلي متذبذب

 

 وبحسب رئيس مجلس إدارة شركة الأغالبة للخدمات الفلاحية المتخصصة في تجميع الحبوب قريش بلغيث فإن "قطاع الحبوب يمثل 13% من القيمة المضافة الفلاحية و27% من إجمالي الأراضي الفلاحية المستغلة".

ويضيف في حديث لـ"عربي21" أن "ارتفاع إنتاج تونس من الحبوب مرتبط بمدى توفر المساحات المروية، فقد مثلت التغييرات المناخية تحديا جديدا للفلاح التونسي في ظل ندرة الأمطار وتعاقب سنوات الجفاف".

وفي نفس الاتجاه يقول علاء الدين بن عرعار المهندس الرئيس بالمعهد الوطني للزراعات الكبرى: "معدل المردود الوطني للحبوب لا يتجاوز الـ16 قنطارا لكل هكتار (الهكتار= 10,000 متر مربع) وهو معدل ضعيف لا يمكن من خلاله تحقيق الاكتفاء الذاتي".

ويعتبر ابن عرعار أن "من أهم أسباب ضعف إنتاج الحبوب في تونس وعدم تغطيته لحاجيات التونسيين "الاضطراب في التزود بالمدخلات الفلاحية خاصة الأسمدة، خاصة مادة الفوسفات التي تساعد في الرفع من الإنتاجية".

ويضيف ابن عرعار أن من الأسباب الأخرى: "غياب الإرشاد الفلاحي من جهة، وكذلك عدم تطبيق مختلف عناصر الحزمة الفنية من قبل الفلاحين، بالإضافة إلى غلاء أسعار المبيدات المستعملة في مكافحة الأعشاب الضارة والأمراض الفطرية، وكذلك النقص المسجل في استعمال البذور الممتازة التي لا تتجاوز نسبة استعمالها الـ20% رغم أن استعمالها من أهم عوامل تحسين المردود، إذ إنها تحافظ على نقاوة الصنف وتعطي زراعة متجانسة وتمكن الفلاح من الاستغلال الأمثل لطاقة الصنف المستعمل".

"الاستيراد عدو الفلاح التونسي"

 

ويرى محمد رجايبية المكلف بالزراعات الكبرى في المنظمة الفلاحية أن "على السلطة أن تستوعب أن الاستيراد عدو الفلاح التونسي وعليها تغيير سياساتها في التعاطي مع منظومة الحبوب، فمن غير المعقول أن تتوجه إلى الاستيراد الذي يكلف ميزانية الدولة سنويا في حدود الـ2000 مليار دينار وفي المقابل تبخس الفلاح حقه في بيع محصوله بأسعار قريبة من الأسعار العالمية".

ويضيف رجايبية لـ"عربي21" أن "الفلاح التونسي يعاني من ارتفاع كلفة الإنتاج وندرة مستلزمات الزراعة على غرار البذور الممتازة والسماد، وفي المقابل فهو يبيع محصوله بأثمان غير مجزية بما جعله يترك زراعة الحبوب ويتوجه إلى زراعات أخرى على غرار الزيتون والأشجار المثمرة".

ويعتبر محمد رجايبية أن "السياسة التي اختارت بها الدولة دعم المنتج الأجنبي على حساب المنتج المحلي تسببت في تقلص المساحات المزروعة من الحبوب إلى أكثر من 10% سنويا، وتأثيراتها خطيرة على الأمن الغذائي للتونسيين".

 

اقرأ أيضا: خطر الانهيار الاقتصادي يهدد تونس في ظل الأزمة السياسية

"الأمن الغذائي مهدد"


تعتبر الحبوب من أهم مقومات الأمن الغذائي في تونس وفي ظل الإشكاليات المحيطة بتوفيره يصبح هذا الأمن مهددا، وهو ما أكدته الإعلامية التونسية المتخصصة في الشأن الاقتصادي جنات بن عبد الله، التي قالت لـ"عربي21" إن "الأزمة الحاصلة في القطاع الفلاحي هي نتيجة لعقود من سياسات تهميش القطاع الفلاحي وضرب منظومات إنتاجه".

وتعتبر بن عبد الله "هذا التهميش ممنهجا هدفه تجويع الشعب التونسي وإخضاعه لدوائر حكم اقتصادية خارجية".

وتضيف أن "الأزمة اليوم خطيرة جدا وتهدد الأمن الغذائي التونسي، ففي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعرفها البلاد، وفي ظل تراجع مخزوناتها من العملة الصعبة وأمام تصاعد أسعار الحبوب في السوق ستجد الدولة نفسها عاجزة عن شراء حاجياتها من الحبوب من السوق الخارجية، وبالتالي عاجزة عن توفير الغذاء لمواطنيها".

"حلول ممكنة"

وحول الحلول الممكنة لتجاوز تلك المخاطر يقول قريش بلغيث: "لا يمكن للدولة أن تنجح في تحقيق الاكتفاء الذاتي دون دعم الفلاح بالرفع من سعر قبول القنطار وتوفير الحزمة الفنية بالإضافة إلى توفير مستلزمات الإنتاج الضرورية في وقتها".

وفي السياق ذاته يعتبر بلغيث أن "هناك تجارب نموذجية يمكن للدولة أن تعممها باعتبار نجاحها على غرار تجربة إنتاج الحبوب في محافظة القيروان، حيث تشرف المندوبية واتحاد الفلاحين على مشروع الزراعات الكبرى المروية، ما أعطى نقلة نوعية للجهة من حيث تطور المساحات من 12,000 هكتار إلى 27,000 هكتار في ظرف خمس سنوات، ومن 35 قنطارا إلى 65 قنطارا كمعدل للمردودية".

وأضاف: "لو تتجه الدولة إلى تعميم هذه التجربة على المناطق السقوية في كامل ولايات الجمهورية وبحد أدنى لـ5000 هكتار لكل ولاية فستشهد البلاد تطورا بنسق تصاعدي نحو تحقيق اكتفائنا من القمح الصلب وتطوير إنتاجنا بشكل كبير من القمح اللين والشعير، علما بأنه من السهل توفير هذه المساحات السقوية بكل ولايات الجمهورية".

أما المهندس في مجال الإنتاج النباتي علاء الدين بن عرعار فيرى أنه "لا يمكن تحسين إنتاجية وجودة الحبوب التونسية دون تأهيل قطاع البحث العلمي في مجال استنباط الأصناف لمواكبة آخر التقنيات الحديثة مع توفير الاعتمادات اللازمة لذلك".

وفي نفس الصدد يشير محمد رجايبية المكلف بالزراعات الكبرى في اتحاد الفلاحين إلى "ضرورة وضع خطة وطنية لتحسين جودة إنتاج البذور الذاتية وتأهيل الشركات المنتجة للبذور لتجاوز الصعوبات الهيكلية التي تمر بها منذ عديد السنوات والتي تحول دون تطويرها. وكذلك تشجيع الاستثمار الخاص في مجال إكثار وتسويق البذور".


التعليقات (0)