قضايا وآراء

في معنى البلاد المهزومة

نزار السهلي
1300x600
1300x600
يشتعل العقل والقلب في العالم العربي من مراقبة مشاهد مأساوية؛ لا تنتهي عند ابتلاع بئرٍ لحياة طفلٍ في المغرب العربي، ولا عند تخوم مخيمات الصقيع في المشرق ولا الموت غرقاً هرباً من أوطان استحكم فيها الاستبداد والطغيان أرواح الملايين، والموت من البرد والقصف والحطام المكثف للقهر، بل عند حقيقة التاريخ الذي يسألنا جميعاً كيف لهذه الأنظمة أن تعيد الكَرة ملايين المرات لاجترار فشلٍ وهزيمةٍ أخلاقية وإنسانية وحضارية، في أسئلة العربي المتشجرة والمتكاثرة من شواغل نهاره وليله عن ضيق الأمل بحياةٍ كريمة حُرة.. سؤال استوطن أعماق النفس المهيأة لهذا الكم الهائل من الحزن، والقهر ما زال يطرق عقلاً تراوده أحلام لا تأتي.

من مأساة فشل إنقاذ طفلٍ في بئر قريته، إلى مأساة شعوب بدت متفلتة من إطارها الضيق بالاستبداد نحو رحابة المساحة بالثورة والغضب، تتحد الشعوب في مشروع فرحٍ وأملٍ بإنقاذ حياة واحدة أو حياة ملايين مثلهم. والشعور بالخذلان والقهر مرده إلى بؤس ويأس عتيقين، وفي البحث المسؤول عن إحياء السياسة والاقتصاد وفرص التنمية التي ماتت مع فساد الأنظمة وتسلطها الأمني والعسكري، فتدهور معنى المسؤولية، لترقب هذه الشعوب كوارث ضخمة؛ من الإهمال والتهميش وغياب التنمية والرقابة، وتسيّد القمع والقهر بدلا من الحرية والمواطنة التي حاول الشارع العربي نيلها؛ ودفع لأجلها الأثمان الغالية من الأرواح المستقرة في قاع البحار، إلى التي اُزهقت في زنازين الطاغية، أو تلك التي رمى من مخزونه الفاشي على أجسادها وعلى مدنٍ وقرى مورس عليها التطهير العرقي.

النظام السياسي العربي وبناه الاقتصادية ما زالوا يتمسكون بذريعة مفادها أن طريقة إدارتهم للحكم موجودة للتعبير عن الشعب وقضاياه، وأنهم يصوغون برامجهم التي يواجهون بها ما "يحاك" له من مؤامرات وتحديات كعناوين تُرمى في وجه العربي الذي وجد نفسه محاطاً ببرامج وسياسات قمعية فاسدة، تُصر في ذروة فاجعة الأوطان والبالغة الإيلام على توجيه ضربات تحط من قيمة الإنسان العربي المتطلع إلى التحرر من عبودية الاستبداد والطغيان والاحتلال. لذلك لم تنته صور وأخبار ومشاهد ضحايا الاستبداد العربي من المشرق العربي إلى مغربه مع عدوان الاحتلال الإسرائيلي؛ سوى إلى ترسيخ صورة واحدة للأنظمة المهزومة في البلاد المنكوبة، وكلما تنافى العقل باتجاه الرحابة، واتسع ليشمل كل الباحثين عن حرية مفقودة في أرجاء العالم العربي، كلما اشتد فعل القهر الذي ينزع لممارسة ساديته وجبروته.

هل نكرر الشواهد ذاتها عن ضحايا الطاغية السوري والمستبد المصري؟ أم نعيد التوقعات عن المنقلب التونسي وشعبويته المريضة برغاء لغوي؟ أو عن الهرولة نحو استعادة الاستبداد لتحالفه مع بعضه ومع المؤسسة الصهيونية؟ أو التناول المبكي والمفجع لحركة تحرر فلسطيني ونضالات شعبه في المسيرة المضنية باتجاه التقاط خيط من ضوء في نهاية بئر خفقت قلوب الملايين معه تدعو لنجاة طفل، ثم حزنت وتألمت لموته المأساوي، وفي المسيرة والصورة ذاتها أطفال ونساء وشباب العرب.. تبدو الحرية والنجاة مآلاً لانعتاق البشرية من أبغض طاغية وأعتى سجان واحتلال عرفته عصور العرب.

يتسع المعنى هنا، ليصبح فعل التحرر من الطاغية والمحتل مآلا طبيعياً، يتحدد المكان في القاهرة وبيروت وبغداد ودمشق وتونس والمنامة ورام الله والقدس والنقب، وكل الأمكنة التي تحولت فيها الأوطان لزنازين رطبة ودخان خانق، وباتت مراكب الموت وسراديب التعذيب وملايين المهجرين، وقرارات القهر والإذلال، تشمل المعنى الحقيقي للبلاد المهزومة في قبضة الطاغية والمستبد الذي يصفد الأوطان بكل أنواع الموت والقهر والاعتقال الممكن لكبت الحريات والحياة.

أخيراً، سيبقى فرحنا فرديا، وحزننا جماعيا، وقد بدت البلاد مهزومة في أنظمتها المتسلطة، والخراب سيظل محيطاً حتى يَبرق يوم مشابه لآذار السوري، ويناير المصري، وفبراير التونسي، في لحظة مفاجئة من حيث لا يتوقع الطاغية والمحتل، وهي أيام أخبرنا التاريخ عن حتميتها المطلقة وعن تكرارها، حتى لو تنكر لها ثوريو الأمس ومهزومو "المادية التاريخية والديالكتيك"؛ وقد تحولوا لهتيفة يمجدون جرائم الطغاة ويلعنون كل فرح جماعي وينعتونه بالمؤامرة.

twitter.com/nizar_sahli
التعليقات (1)
كاظم صابر
الأربعاء، 09-02-2022 06:08 م
الآية الكريمة 24 من سورة الأنفال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ ...) فيها نداء يحتاج منا أو من أغلبنا لاستجابة لكي يمنحنا ربنا النتيجة و هي حياة الأجسام و الأرواح و العقول و القلوب كأفضل ما تكون الحياة . بدلاً من قول " سمعنا و أطعنا يا رب " ، اتجه الكثيرون لإتباع خطوات الشيطان و لتقديس الأصنام البشرية أي ساروا خلف من سيعترفون لاحقاً بإضلالهم لهم (وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا ) ثم يطلبون من الله مضاعفة عذاب السادة و الكبراء "الذين كانوا أسياداً في الفشل و الإفشال و كباراً في الهزائم و الإخفاقات" . دعونا نعترف بما ذكره الشافعي رحمه الله في ثلاثة أبيات شعر حكيمة " نَعيبُ زَمانَنا وَالعَيبُ فينا ** و وَما لِزَمانِنا عَيبٌ سِوانا . وَنَهجو ذا الزَمانِ بِغَيرِ ذَنبٍ ** وَلَو نَطَقَ الزَمانُ لَنا هَجانا . وَلَيسَ الذِئبُ يَأكُلُ لَحمَ ذِئبٍ ** وَيَأكُلُ بَعضُنا بَعضاً عَيانا) مع أن زمن الشافعي كان فيه "قلة انتصارات" و زماننا هذا في "فائض هزائم " . لو رأى الشافعي أعراب اليوم لاستعمل عبارة أقسى من "والعيب فينا" . مثلاً : توجد "نذالة" غير مسبوقة لدى الأعراب الحاليين جعلت منهم مطايا للقاصي و للداني . لا توجد "رجولة حقَيقية" و إنما "ذكورة قريبة من وصف أشباه الرجال" . يوجد جبن واضح فاضح لا ينجي من سوء العذابات اليومية . باختصار ، نحن في زمن "الغثائية" الذي من أبرز خصائصه "الوهن " أي حب الدنيا و كراهية الموت مع أن هذا الحب غير مجدي حيث أنه لا نتيجة له ، فالدنيا حالياً ليست لنا و خيرنا يذهب لغيرنا .