هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
قُهِر الإنسان بالموت، وقد كانت هذه النهاية المحتومة مأساة الإنسان منذ الأزل. وقف جلجامش، الملك العظيم، عاجزا أمام موت صديقه أنكيدو وخاض رحلته في سبيل عشبة الخلود، لكن لا خلود والإنسان فان، وما يتركه وراءه من جمادات تبقى فترة أطول منه، وهذه الحقيقة لا يمكن تغييرها.
لم يختبر أحد الموت ورجع ليخبرنا كيف هو وماذا بعده. نحن نعرف فقط أن من يأخذه الموت لا يعود أبدا، وهذه علة خوف الإنسان منه وكرهه له، لكننا رأينا تأثير الموت على الأحياء. في غفلة من الوقت يرحل عزيز ظنناه لن يتركنا، يرحل لا بإرادته بل قهرا. لتجربة الفقد أكبر الأثر على الباقين، ولكن لكل طريقته في التعامل مع حزنه. وفي كثير من الأحيان تكون هذه التجربة شرارة تشعل إبداعا، أو بداية لطريق جديد ورؤية مختلفة.
سأحاول من خلال هذه الورقة تتبع الحالة النفسية للرفيق المفجوع، الذي وجد نفسه أمام اختبار هائل يحتم عليه إكمال طريقه دون رفقة، أن يكمل الرحلة ناقصا. ونرى كيف سيتعامل مع أزمته، وكيف ستحوله؟
الذي رأى كل شيء: من ملك إلى هائم في البراري.
وصل جلجامش لأوج قوته وبأسه في أوروك، ثلثا إله وثلث إنسان، لا يهزمه أحد والجميع تحت سطوته، ولكن هذا الملك يحتاج للرفقة؛ شيء ما ينقصه. ظن أن النساء ستملأ هذا الفراغ فكان يضاجع كل عروس قبل عريسها. ولكن ما ينقص جلجامش رفقة أخرى، فهو بحاجة لرفيق يشبهه، وقد قادته الأقدار إليه. شمخة بذكائها وفطنتها استطاعت أن ترى وجه الشبه بين ملكها جلجامش وذلك البري إنكيدو. كانت مهمة شمخة أن تغوي ذلك الكائن البري، الذي يساعد الحيوانات على الهروب من المصيدة، لكن علاقتها بذلك المتوحش تطورت؛ فشمخة التي ورد ذكرها في الملحمة على أنها بغي، كان لها أهم وأكبر دور في تحريك الأحداث بل لصنع الملحمة كاملة؛ كيف كان سيتم اللقاء بين الرفيقين دون شمخة. شمخة التي حولت إنكيدو من وحش بربري إلى كائن متحضر، التي قادته وتبعها كما يتبع طفل أمه. لم تكتف شمخة بالدور الموكل إليها، فبعد أن عاشرت إنكيدو اقتربت منه ووجدت فيه من سمات ملك أوروك العظيم، وقررت أن تقود الرفيقين بعضهما إلى بعض. ومثلما يحدث في قصص الحب العظيمة عرف الحبيبان بعضهما بعضا من اللقاء الأول.
تعارك البطلان بداية، ولكن ما إن هدأ روعهما حتى عرفا أن كلّا منهما هو الرفيق والنصف المكمل للآخر. يوما بعد يوم اكتمل نقصان جلجامش واكتملت حياته، ومضى مع رفيقه يخوضان المعارك ويهزمان الوحوش واحدا بعد الآخر. لكن جلجامش كان يبدي عزيمة وحماسا أكبر من إنكيدو، الذي ربما شبع من حياة البراري وفيه توق للاستقرار، على عكس الملك الذي يبحث عن المغامرة، وتخلى عن الجميع ليرافق إنكيدو الذي وجد معه السعادة التي بحث عنها طويلا حين وجده.
بعد بلوغنا الذروة لا يبقى لنا مكان نصل إليه فنبدأ بالهبوط؛ من قمة سعادته برفقة صديقه يهبط جلجامش وإنكيدو إلى مهاوي الحزن والأسى. تقرر الآلهة موت إنكيدو؛ إنكيدو الذي بدأ غريبا وانتهى غريبا. إنكيدو الذي ما إن ظن أنه قبض على السعادة حتى وجدها سرابا ومثله جلجامش.
بدأ جلجامش رحلته تحت وطأة العذاب. كان موت إنكيدو مصابا جللا لم يقوَ على تقبله وقد غرق في ظلام دامس، حاول الخروج منه بخوض الرحلة التي ابتغى منها الوصول إلى الخلود حتى لا يسيطر الموت على حياته مرة أخرى. ولكن هل كانت رحلة جلجامش سهلة؟ وما الذي حققه منها؟ كيف انتصر وقد عاد إلى المدينة التي خرج منها دون أن ينال سر الخلود؟
كما بدأت الملحمة انتهت؛ بوصف أسوار أوروك. هل كانت رحلة عبثية؟ بالتأكيد لا، لأن جلجامش الذي خرج منها يختلف تماما عن جلجامش الذي عاد إليها. لقد كان موت إنكيدو الشرارة التي أشعلت جذوة التجربة. كان لا بد من موته ليتحول واقع جلجامش، ليهتز العالم من تحت أقدامه ويخوض بعدها رحلته التي جعلته يفهم سر الحياة والوجود. جلجامش الذي صورته الملحمة في البداية وحشا مستبدا لا يقدر عليه أحد، تحول بسبب الأسى والحزن إلى حكيم يؤمن بالحرية مع الآخرين ومن أجل الجميع. لم يتغلب جلجامش على الموت، لكن رحلته علمته أن يتقبل الموت وبقبوله الموت قد قبل الحياة.
من جلجامش إلى الرومي
ترتبط بعض الأسماء بعضها ببعض، فلا يمكن لنا أن نذكر جلجامش دون ذكر إنكيدو، وحين يرد اسم جلال الدين الرومي لا بد من ورود اسم شمس التبريزي. قد تبدو العلاقة بعيدة لأول وهلة، ولكن يمكن للقارئ أن يجد أوجه التشابه بين القصتين. صداقة عظيمة بين رجلين يبدوان للوهلة الأولى مختلفين، ولكن التشابه بينهما يصل أحيانا للتماثل، فيتحول كل منهما مرآة للآخر.
تناول العديد من الكتاب والمؤرخين حياة الرومي ومؤلفاته. ظهرت عبقرية الرومي كشاعر في فترة كان قد بلغ فيها مرحلة متقدمة من النضج الفكري والنفسي. ولكن العجيب في تلك العبقرية أنها جعلت إنتاجه العقلي بعد أن قارب الأربعين يختلف اختلافا كليا عن إنتاجه السابق على ذلك. لقد كان واعظا، وعدَ من الفقهاء الأحناف، فأصبح صوفيا فنانا شاعرا، وحكيما أخلاقيا وفيلسوفا إنسانيا. ولكن ما سر هذا التغير؟
"تشير المصادر إلى أن الانتقال والتغيير في تجربة الرومي نشأ منذ التقاء الشاعر بصوفي كثير التجوال يدعى (شمس الدين التبريزي). يمثل اللقاء بين الرومي والتبريزي النقطة الأهم روحيا عند الشاعر، وقد تم اللقاء سنة 642 للهجرة في مدينة قونية. لا بد من أن الرومي كان ميالا إلى التصوف؛ نزاعا إلى التأمل الروحي العميق، وقد كان لقاؤه بشمس الشرارة التي أشعلت تجربته الوجدانية فانطلق في طريق كان مقدرا له أن يخلد اسمه بين شعراء العالم ومفكريه".
لقاءان:
حين التقى الرومي شمسا، كان قد بلغ مكانة رفيعة في العالم الإسلامي، وطبقت شهرته الآفاق كقطب صوفي وإسلامي. أما شمس، فقد كان درويشا جوالا يتمتع بشخصية طاغية مهيمنة ذات كبرياء روحي عظيم. لا تقدم كتب التراجم لنا معلومات واضحة عن التبريزي، فأصله غير معروف، ولقد وصفه البعض بأنه كان شبه أمي. ألا يذكرنا هذا اللقاء بلقاء جلجامش الملك العظيم صاحب المكانة بإنكيدو الذي عاش في البراري بين الحيوانات؟
كان اللقاء الأول الذي تم في أحد طرقات قونية فاتحة صداقة خالدة بين الرجلين، حين استوقف شمس جواد جلال الدين وطرح عليه سؤالا جريئا يسبر به غوره، فأجابه بوضوح ومباشرة. عرف حينها شمس أنه وجد ضالته التي يبحث عنها. ثم سار الاثنان معا إلى مكان اجتماعهما الأول الذي استمر ستة شهور كاملة، انقطع خلالها جلال الدين عن حلقة تلاميذه ومريديه وعن دروسه الدينية، وتفرغ للحوار مع شمس التبريزي. ويحكي من قام على خدمتهما في الأثناء، أنهما كانا في حديث دائم لم يلههما عنه حاجة من حاجات الدنيا، عاكفان على الحوار أطراف الليل وأطراف النهار.
لنرجع للقاء بطلَي الملحمة؛ لم يكن السؤال فاتحة اللقاء، بل مصارعة عنيفة التحَمَ فيها البطلان، كانت فيها الغلبة لجلجامش الذي ما إن تمكن من إنكيدو حتى هدأ غضبه وتركه. لكن إنكيدو ناداه بكلمات وقعت في نفسه حسنا، وكانت فاتحة صداقة ومحبة دائمة. رأى كل منهما صورته في وجه الآخر منذ اللقاء الأول.
الفرق الواضح بين القصتين هو ردة فعل الناس من الصداقة؛ ففي ملحمة جلجامش استبشر أهل أوروك بظهور إنكيدو؛ فقد غيرت هذه الصداقة جلجامش تغييرا عميقا، كان له أثره الإيجابي على أهل المدينة. بالجانب الآخر، نرى سخط الكثيرين بسبب صداقة الرومي وشمس. "لقد استطاع شمس أن يبعد الرومي عن تلاميذه، ويعرض عن الوعظ، وينصرف إلى حياة المعرفة الحقانية، وينطلق في التعبير عن حياته الجديدة بفيض غامر من الشعر بلغ أسمى درجات العبقرية".
ها هي الشمس قد أفلت:
حقد تلاميذ الرومي على ذلك الدخيل الذي صرف عنهم أستاذهم، وهاجموه، فما كان منه إلا أن سافر خفية إلى دمشق. فحزن جلال وابتأس لافتراقه عن صديقه، ونظم كثيرا من الشعر الوجداني في تلك الفترة، ولم ينقذه من شجونه إلا ابنه سلطان ولد، الذي ذهب إلى دمشق وعاد بشمس. وقد ذكر أن تلاميذ الرومي هاجموا شمسا مرة أخرى، وأن الرومي عمل لإعادته من جديد. ولكنه اختفى نهائيا عام 645 للهجرة. وقد قيل في تفسير هذا الاختفاء؛ إن تلاميذ الرومي قد قتلوه. تألم الرومي كثيرا لفقد صديقه.
كان فقد التبريزي مؤلما جدا للرومي. وقد بقيت ذكراه عالقة في ضمير الشاعر تتردد أصداؤها في أشعاره الغنائية. وحين بدأ بنظم المثنوي بعد سنوات من الفقد، كان لا يزال يشعر بالمحبة ذاتها، وقد ذكره في كتابه في أكثر من موضع. ولم يتخذ نغمة الرثاء في الحديث عنه، بل كان يذكره وكأنه حي.
على الرغم من الألم والحزن الذي شعر بهما الرومي بعد فقد صديق، إلا أن هذا الألم كانت له ثماره؛ فقد كان لصداقة الرومي وشمس حصيلة شعرية هائلة؛ نظم الرومي ديوانا كاملا سماه "ديوان شمس تبريز" ذكرى لصديقه وموجهه الروحي. ولم يقف عند نسبة العمل الأدبي إلى صديقه، بل إنه نسب أكثر غزليات هذا الديوان إليه، ووضع اسمه في تخلص كل منها. (والتخلص في الغزل الفارسي، هو أن يذكر الشاعر اسمه الأدبي في البيت الأخير من الغزل)، وكأنه بهذا التخلص ينسب الفضل إلى شمس في هذا الشعر. وكما خلد جلجامش وإنكيدو بخلود ملحمتهما، خلد الرومي وشمس تبريز بخلود شعر الرومي.
________________________________________________________________________________
مصادر:
•السواح، فراس. كنوز الأعماق، قراءة في ملحمة جلجامش. مطابع دار العلم. 1987
•الرومي، جلال الدين. مثنوي. ترجمة: محمد عبدالسلام كفافي. المكتبة العصرية، بيروت . ط1. 1966
•غالب، مصطفى. جلال الدين الرومي. مؤسسة عز الدين، لبنان. 1982
•الحاج، يزن. إلهي قد ازدراني، موت إنكيدو
•https://www.jadaliyya.com/Details/40342
•الحاج،يزن. كوجه مسافر قطع دربا بعيدا
•https://www.jadaliyya.com/Details/41472