يفتتنا الشخص بلسانه العذب حين نلتقي به ونستمع إليه، ويعجبنا هدوء أعصابه ورباطة جأشه في المواقف العصيبة، وتبهرنا سرعته في اتخاذ القرارات حين نكون مترددين وحائرين أمام المسائل المتشابكة، ونغار من ثقته المفرطة بنفسه، ونتمنى لو نمتلك بعضاً من حصانته تجاه طعون المشككين وظنونهم واعتراضاتهم.
في السباق السياسي نرى هذا الشخص يتصدر المرشحين لمنصب الرئيس. وفي الميدان العسكري نجده أول المظلّيين القافزين من الطائرة، وأكثرهم نجاحاً في تفكيك الألغام الأرضية، وأسرعهم إلى اقتحام أوكار المجرمين. وفي المجال الطبّي الجراحي نجده أقدر زملائه على إعمال المشارط في أجساد المرضى، وأكثرهم هدوء أعصاب في التعامل مع المؤشرات الحيوية الفاصلة بين الحياة والموت. وفي المجال الإداري والتجاري نجده الأنجح في أدارة الموظفين، وعقد الصفقات وجني الأرباح ومعرفة من أين تؤكل الكتف.
الذكاء الفطري في تحديد نقطة الضعف في الخصوم، والجمع بين القول والفعل، والكفاءة مع الإصرار، والاندفاع مع الإثارة، كلها صفات شخصية رائعة. لكنّ الطبيب النفسي كيفن داتون، مؤلف كتاب "حكمة
السيكوباتيين" يرى أن لها جانباً آخر ينقلها إلى المرض النفسي الخطير، ويعيد تعريفها في ضوء الإمكانيات التدميرية للجنون المختبئ خلف أستار العقل.
يستند الطبيب الإنجليزي في كتابه إلى مئات الدراسات والتجارب التي أجراها المتخصصون في التحليل النفسي والعصبي والسلوكي لتحديد الطيف الواسع من السمات المشتركة بين أسوأ المجرمين في التاريخ البشري وأفضل الرجال في المواقع القيادية في المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية والطبية والقانونية.
ويهدف داتون من خلال المشاهدات والمقابلات، وقراءة البيانات الناتجة عن اختبارات تشخيص الدوافع، إلى تغيير الصورة الضيقة الشائعة للمرض النفسي السيكوباتي المرتبط بالسلوك الإجرامي في أبشع صوره، والتفريق بين السيكوباتي المفيد والمدمر.
ما يميّز الجريمة السيكوباتية عن غيرها من الجرائم، هو بشاعتها وتكرارها وغموض دوافعها، واستعصاؤها على العقل السليم والمنطق، ومخالفتها للطبيعة البشرية المفطورة على تجنّب الإيذاء. وبسبب بشاعتها وشذوذ مرتكبيها، كانت الجريمة السيكوباتية محط اهتمام كبير من المجتمع وعلم الجريمة ووسائل الإعلام وعلماء النفس والفنون، خصوصاً السينما التي خلّدت القتلة السيكوباتيين أصحاب الجرائم المتسلسلة في قصص سينمائية شهيرة، منها على سبيل المثال فيلمان عن سيرة القاتل الأمريكي "جفري دامر" (1960- 1994) المسؤول عن قتل 17 ضحية، الأول أنتج عام 2002، وحمل عنوان "دامر"، واهتمّ بالمرحلة النشطة من حياة المجرم السيكوباتي الخطير، والثاني حمل عنوان "صديقي داهمر"، وأنتج عام 2017، واهتم بالمرحلة المبكرة من سيرته والتكوين الشخصي والظروف الأسرية التي هيأته ليكون واحداً من أسوأ المجرمين.
يستقي الفيلم الثاني مادته من كتاب ألفه عام 2012 "جون ديرف باكديرف"، وكان صديقاً لدامر في المدرسة الثانوية، ويحكي الفيلم عن شخصية "دامر" المراهق الشغوف بالتجارب الكيميائية والتشريحية، وقضائه معظم أوقاته في كوخ بجوار منزل عائلته يجري التجارب على الحيوانات النافقة التي يجمعها عن جوانب الطرق.
كان "دامر" يرغب في التخصص في علم البيولوجيا، لكنّ دوافعه كانت تنمّ عن قسوة قهرية وميل إلى العنف، ولم تكن تدل على اهتمام بالمعرفة العلمية وتسجيل نتائج لتجاربه، أو كتابة ملاحظات يشاركها معلمي العلوم في المدرسة، ويدعم بها تكوينه المعرفي.
ينتهي الفيلم عند النقلة الفارقة من حياة "دامر"، عند تحوله من إجراء التجارب التشريحية على الحيوانات النافقة إلى إجرائها على البشر الأحياء من ضحاياه المخطوفين، ليبلغ عددهم 17 ضحية، مارس عليهم أبشع أنواع التعذيب خلال المرحلة الإجرامية النشطة من حياته، على مدى 13 عاماً.
كيف انحرفت شخصية "دامر" عن مسارها ولماذا، أم أن مسارها كان منحرفاً منذ البداية، وما مرحلة الفضول التشريحي إلا مرحلة مبكرة في السياق التطوّري الإجرامي للشخصية السيكوباتية؟
يترك الفيلم الإجابة عن هذه الأسئلة برسم النقاش، لكنه يكشف عن الظروف الاجتماعية التي أحاطت بحياة "دامر" المراهق، وقد تكون ساهمت في تحويل مساره من التخصص المفيد في علم البيولوجيا إلى الجنون السيكوباتي المدمر. من هذه الظروف أن أباه أغلق كوخ التجارب وحرمه من ممارسة هوايته. ومنها أن أمه كانت مدمنة على الحبوب المخدرة. ومنها طلاق أبويه وتركهما له وحيداً في المنزل ليدمن على الكحول في سن مبكرة. ومنها رفاق المدرسة الذين كانوا يشجعونه على القيام بأفعال مستهترة تعزز ميوله المضادة للمجتمع، مثل التخريب والإزعاج والتظاهر بالصرع وإخافة الناس.
ولا يقدّم عالم النفس "داتون" في كتابه الشامل إجابة عن سؤال العنف الإجرامي في التكوين النفسي للشخصية السيكوباتية. بل يقود البحث نحو هدف آخر نفسي سلوكي، يتمثّل في تحديد المنطقة القوس قزحية المتداخلة السمات التكوينية، التي يشترك فيها أعتى المجرمين السيكوباتيين مع أنجح القياديين المسؤولين عن إدارة شؤون البشر.
"الكاريزما" و"الثقة بالنفس" و"القدرة على التأثير والإقناع" و"المخيلة الخصبة" و"حب المخاطرة" و"اتخاذ القرارات في المواقف الصعبة" و"الإصرار على إنجاز العمل". كلها سمات مشتركة بين السيكوباتيين بإجماع علماء النفس. فإذا أضيفت إليها سمات "الفتنة السطحية" و"وداء العظمة وتضخم الذات" و"التلاعب والاحتيال والكذب المرضي" و"الاندفاع والتهور وحب الإثارة" و"الفقر الانفعالي وانعدام العاطفة"، فإننا نكون أمام سيكوباتي مدمر.
يمشي السيكوباتي إلى هدفه مثل صخرة عنيدة متدحرجة، بعزيمة لا تلين، وتهور لا يقيم وزناً للعواقب من أي نوع، وبراغماتية لا تهتم بالضحايا، ولا يطرف لها جفن تجاه المسارات اللاأخلاقية التي تخطتها. وغالباً ما يطغى ضجيجه الذاتي وصوته العالي على ضجيج المعترضين وأصوات الضحايا. ولا ينظر السيكوباتي إلى الخلف أبداً، ليرى جنايته ومقدار الأذى الذي خلّفه، فهو يتمتع بحصانة هائلة ضد مشاعر الندم والتعاطف والإحساس بالذنب.
إن أسوأ السيكوباتيين ليسوا القتلة المجهولين أصحاب الجرائم المتسلسلة، الذين تمكنهم أدواتهم البسيطة وإمكانياتهم المحدودة من قتل بضع عشرات من الناس، بل هم رجال السياسة الذين يقفزون إلى سدة السلطة، إما بالتلاعب والكذب على جمهور الناخبين، وإما بالإنقلابات العسكرية وعبر دكتاتورية الحزب الواحد. ومثل هؤلاء يضعون أيديهم على أدوات قتل واسعة النطاق، ويتملكون إمكانيات غير محدودة لإيقاع الأذى بشعوبهم، أو بغيرهم من شعوب الأرض، ولا تعوزهم بلادة الإحساس، ولا انعدام الضمير، ولا النرجسية التي تصور لهم أنهم يصنعون تاريخاً مشرقاً، ولا الحجج البراغماتية التي تنظر إلى موت ملايين البشر بوصفه خسائر هامشية.