قضايا وآراء

عن بعض مشاهد تطور الأزمة التونسية.. وفرص الخروج منها

امحمد مالكي
1300x600
1300x600
أعلنت الرئاسة التونسية عن اعتبار 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 تاريخا للثورة التونسية وليس 14 كانون الثاني / يناير 2011، أي يوم سقوط النظام بخروج رئيسه من البلاد. وقد تمّ الربط بين حدث إحراق المرحوم "البوعزيزي" نفسه واندلاع الحراك الاجتماعي في مدن تونسية والبداية الحقيقية لنشوب الثورة، التي أفضت إلى كل الأحداث التي أعقبتها، بما فيها سقوط رأس النظام.

يمكن للمرء الموافقة على هذا الربط، كما من حقه الاعتراض عليه لأسباب عديدة؛ أبرزها السعي سعي الرئاسة إلى اللعب على الرموز الأكثر تأثيرا في المخيال الجماعي التونسي، وفي صدارتها تاريخ الثورة، لما يختزن من شحنات معنوية، ولما له من طاقات إيجابية في شحذ الهمم وتقوية العزائم لدى فئات واسعة من الشعب التونسي، وفي مقدمتها الشباب، هؤلاء الذين شكلوا الكتلة الوازنة والحرجة في تحقيق فوز "قيس سعيد" في الاقتراع الرئاسي. لذلك، يتابع الرأي العام التونسي والمهتمون بتطور الأزمة في هذا البلد؛ بعناية كبيرة ما ستحمل الوعود الرئاسية يوم الجمعة 17 كانون الأول/ ديسمبر 2021 المقبل من قرارات وإجراءات، كما يتساءلون عن الآفاق التي ستفتحها على طريق الخروج من الأزمة المترتبة عن حالة الاستثناء المعلنة في 25 تموز/ يوليو 2021.

نُذكر، بما أشرنا إليه في مقالات سابقة، بأن إرادة الرئيس متجهة إلى تغيير جوهري للنظام الذي أفرزته الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية التي أعقبت 14 كانون الثاني/ يناير 2011، وأن تقديراته واضحة وقطعية بخصوص حاجة تونس الماسة إلى إعادة صياغة دستور 2014، وانتقاء النخب البرلمانية والحكومية القادرة على إدارة البلاد، وأن تشكيكه قوي وحازم في عدم كفاءة الأحزاب، بكل ألوانها ومكوناتها، وضعف قدراتها على إنجاز تطلعات الشعب التونسي، وتحسين أوضاعه نحو الأفضل، ومن هنا يمكن فهم طبيعة الإجراءات التي أقدم عليها.

تذكرني الإجراءات الاستثنائية التي أقدم عليه الرئيس في 25 تموز/ يوليو المنصرم، بل يُحفزني خطابه بخصوص إصلاح النظام السياسي بشكل عام على التذكير بتفكير مؤسس الجمهورية الخامسة الفرنسية )4 تشرين الأول/ أكتوبر 1958(، الجنرال ديغول، مع الفارق طبعا.. يدعو بقوة إلى بناء نظام جديد، لا يكون الرئيس فيه عبارة عن إمعة، ولا تتغول خلاله مؤسسة البرلمان، وتشل كثرة الأحزاب وانقسامها الحياة الدستورية والسياسية.

وأظن أن روح خطاب "بايو" (Bayeux) الذي ألقاه "ديغول" عام 1946 في هذه المدينة الصغيرة بمنطقة "النورماندي" (Normandie)، في سياق مناخ التحرير (1944)، خيمت بكلكلها على ما تشهد تونس من تطورات منذ تموز/ يوليو الماضي، وربما قبل هذا التاريخ بكثير. فالرئيس الفرنسي الأسبق وضع أسس النظام الذي يجب أن يسود، وتستقر خلاله مؤسسات الدولة كي تُعيد إنعاش الاقتصاد، وتستعيد مكانة فرنسا التي أضعفتها الحرب.

لم يجد خطاب "بايو" صدى وتجاوبا عند تأسيس الجمهورية الرابعة التي لم تعمر طويلا (1946- 1958)، لكن أصبح مصدر ميلاد الجمهورية الخامسة ونشوئها، وتقلد صاحبة منصب أول رئيس لها (1958-1969)، حيث منحه الدستور مكانة سميقة وقوية، تسمو على البرلمان والأحزاب، وتمت عقلنة المؤسسة البرلمانية، وترشيد نظام الأحزاب.

ثمة أكثر من تساؤل أمام ما ستُقدم عليه مؤسسة الرئاسة في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2021. يتعلق أول هذه التساؤلات بكيفية حل مشكلة البرلمان المعطل، والحكومة المعيّنة بإجراءات غير تلك المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية، والمؤسسة القضائية التي ما انفكت تتعرض لما يمكن أن يضعف مكانتها، ويجردها من استقلاليتها، ناهيك عن أوضاع الذين تم إيقاف رواتبهم، أو قُيدت حرياتهم العامة، وما إلى ذلك من القرارات والممارسات التي حصلت في سياق تفعيل الإجراءات الاستثنائية.

فهل ستقدم مؤسسة الرئاسة على خطوات تُكمل من خلالها الإصلاح الجوهري للنظام، من قبيل إعادة كتابة دستور جديد، أو تعديل نوعي للدستور الحالي وطرحه على الاستفتاء، ومن ثم تنظيم انتخابات تشريعية جديدة؟ أم سيقع تمديد حالة لاستثناء إلى حين الانتهاء من توفير مناخ لإصلاحات الجوهرية؟ وفي مستوى ثالث، هل ستلجأ مؤسسة الرئاسة إلى فتح باب الحوار مع مكونات المجال السياسي والاجتماعي التونسي، لتجد كل الأطراف من خلاله فرصا للتعبير عن رأيها وتطلعاتها، وتبحث مع غيرها عما يشكل المشترك النافع للوطن التونسي؟

لا يبدو أن فرص الحوار متيسرة بما يكفي، وإن كانت ضرورية ومفصلية لإخراج البلاد من أزمتها المركبة. ما يبدو ممكنا في سياق مآلات الأزمة التونسية وحيثياتها، هو الميل إلى الاستمرارية، أو التغيير المحدود ضمن الاستمرارية، وهو ما لا يتمنى حصوله كل محب صادق لهذا البلد الشقيق، لأن حصوله سيعمق الأزمة التونسية، وقد يفتح البلاد على آفاق لا تبدو معالمها واضحة ومطمئنة بما يكفي.. بل الأخطر من كل هذا سينمي اعتقاد الكثيرين بأن ما يحصل في تونس منذ نهاية تموز/ يوليو الماضي يندرج ضمن رؤية نهج سياسة "الطاولة الجرداء" (table rase)، أو نظرية "الفارس الوحيد" (cavalier seul)، التي قد تفيد صاحبها لكن تدمر الجماعة السياسية وتشل قدرتها على الاستمرار.. تونس في حاجة إلى إرادة البحث عن المشترك، أي قيمة الحوار من أجل التفاهم، أو بتعبير عالم الاجتماع الأمريكي "روجي فيشر" (Roger fisher) فلسفة "الوصول إلى نعم" (getting to yes).
التعليقات (0)