مغامرات أوكرانيا وصداها في ربيع العرب

تاريخياً ينهزم المحتل بإحدى وسيلتين؛ إما باستمرار الثورات العسكرية المستهدفة لوجوده، فتستنزفه وترغمه على الرحيل بعد أن تكون قد أتت عليه أو كادت، أو بانشغاله في عقر داره، أو مع خصومه بعيداً عن الأرض التي احتلها، فيُرغمه ذلك على الرحيل، للانهماك بشؤونه الداخلية أو بما هو أعظم، فيستغل حينها الثوار الفرصة، فيقضون على عملاء الاحتلال، الذين استقووا به بالأمس، وبغيره.

هكذا ينبغي أن ينظر الثوار في دول الربيع العربي لمحتليهم الداخليين والخارجيين، وهكذا ينبغي أن ينظر الثوار ومعهم الشعوب الثائرة التي لم تفقد بوصلتها بعد، ولم تفقد حماسها ولا رغبتها في التغيير، إن كان في سوريا أو في اليمن ومصر وليبيا والعراق. فكل ما يجري من حكم آني مؤقت في هذه الدول، إنما هو مناكفة للجغرافيا والتاريخ والمنطق، ولن يدوم بإذن الله. وحكام اليوم في هذه المناطق إنما يستقوون بقوى الشر والإجرام، لا بقوتهم وبسطوتهم التي سحقتها شعوبهم منذ اليوم الأول لربيع العرب، فكان رد الوكيل الداخلي للاحتلال بشحذ قوى الإجرام الغربي والشرقي والطائفي خلفه وإلى جانبه؛ أملاً في وأد حلم الشعوب.

حكام اليوم في هذه المناطق إنما يستقوون بقوى الشر والإجرام، لا بقوتهم وبسطوتهم التي سحقتها شعوبهم منذ اليوم الأول لربيع العرب، فكان رد الوكيل الداخلي للاحتلال بشحذ قوى الإجرام الغربي والشرقي والطائفي خلفه وإلى جانبه؛ أملاً في وأد حلم الشعوب

لم نعد نفرّق كثيراً بين روسيا وأمريكا في مناهضة أشواق الشعوب، وبتنا نرى تقاطعاً، وتلاحماً أحياناً في مناطق الربيع العربي، فلا يستطيع عاقل أن يظن للحظة أن الاحتلال الروسي للشام يمكن له أن يحصل دون موافقة أمريكية وغربية، ولذا نلمس التنسيق الجوي والبري بشكل يومي ولحظي فيما بينهم، وما يعجز عنه المحتل الروسي في قمع الثورة يتكفل به الأمريكي، ويظل التنسيق على أعلى المستويات، بينما يقوم الوكيل الإيراني كمقاول منفذ على الأرض في تفتيت المجتمع السوري والعراقي واليمني واللبناني، يفعل ذلك كله بسيف الإسلام الكاذب الذي يرفعه، وكما قال جمال الدين الأفغاني من قبل: لا يُذبح الإسلام إلاّ بسيفه.

مناسبة الحديث هو ما يجري اليوم في أوكرانيا والحشد الغربي والشرقي فيها، وبغض النظر عما إذا كانت ستقع المواجهة أم لا، وما إذا كان ذلك مجرد استعراضات لانتزاع مواقف، وامتيازات من قبل هذا الطرف أو ذاك، لكنها قد تكون فرصة للشعوب الثائرة في أن ينشغل المحتلون الأمريكيون والروس ببعضهم؛ ربما لأول مرة بعيداً عن مناطق وجغرافية الأمة، وبالتالي فإن أي خطأ من هنا أو هناك قد يسفر عن مواجهة، تستطيع الأمة من خلاله النفاذ منه، فترتب أوراقها وتلحق هزيمتها بعملاء ووكلاء المشروعيْن من الطغاة والمليشيات الطائفية المجرمة المتورطة في المشروع من البداية إلى النهاية؛ أملاً في وأد المشروع العربي التحرري بما يمثله ربيع الشعوب العربية.

كعادة سياسة عصابات المافيا، تقوم بخلق المشكلة ثم تطرح حلولاً لها بما يسمح لها بقبض الثمن، ويظن الطرف الآخر أن الفرصة أمامه من أجل تسوية الأمر، ذاك بالضبط ما يفعله الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع الغرب في أوكرانيا، ولكن كثيراً من الأصوات الغربية تحذر من الإنصات له، والتعامل معه هذه المرة. فبوتين لا يريد ثمناً عسكرياً فقط من الغرب بوقف توسع حلف النيتو في أوكرانيا وإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل عام 1991، وإنما يريد ثمناً سياسياً، بألاّ تتحول أوكرانيا الديمقراطية كمصدر إلهام لكل من هو داخل روسيا والجمهوريات الدائرة بفلكها، خصوصاً وأن بوتين نفسه وصف في أيار/ مايو الماضي أوكرانيا بأنها "معادية لروسيا"، ولذا حرص على استخدامها منذ تخليها عن ترسانتها النووية في عام 1994 مقابل محافظة روسيا على وحدة أراضيها؛ كمخلب على رقعة شطرنجه.

هناك دول غربية أخرى تخشى من الفوضى التي تزرعها روسيا، فتوظفها لاحقاً ضمن مخططها في توسيع دائرة نفوذها وتقليص نفوذ النيتو، كما فعلت أخيراً في بيلاروسيا وبولندا، وتستعد ربما في أماكن أخرى، مستغلة حالة الهزيمة الأمريكية في أفغانستان

تدرك أوروبا تماماً أن بوتين اليوم يعمل على تقليص جغرافية النيتو، ولذلك تحركت دول مثل فنلندا وغيرها للاستعداد عسكرياً للتحركات الروسية، وذلك خشية أن تكون هي الهدف المقبل بعد أوكرانيا. وهناك دول غربية أخرى تخشى من الفوضى التي تزرعها روسيا، فتوظفها لاحقاً ضمن مخططها في توسيع دائرة نفوذها وتقليص نفوذ النيتو، كما فعلت أخيراً في بيلاروسيا وبولندا، وتستعد ربما في أماكن أخرى، مستغلة حالة الهزيمة الأمريكية في أفغانستان، والانعزالية التي ربما زحفت على صانع القرار الغربي والأمريكي تحديداً بعد ما جرى في أفغانستان.

واشنطن تهدد كالعادة بعقوبات مالية، وهذه المرة كما وعدت فإنها ستكون عقوبات خطيرة ستقطع روسيا عن السوق المالي العالمي، وبالتأكيد قادرة على ذلك، ولكن مثل هذه العقوبات قد ترد عليها موسكو بمناطق أخرى، خصوصاً العسكرية، وهو الأمر الذي قد لا تكون واشنطن في وارد الرد عليه اليوم ربما.

ما يهمنا في الربيع العربي وثورات العرب، هو نصيحة الخليفة الثاني وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، حين قال: "إن هذه الحرب لا يصلح لها إلاّ الرجل المكيث"، ونحن في ليبيا وسوريا واليمن والعراق قد تأتينا فرصة ذهبية، فإن كان ثوار العرب على استعداد وتهيؤ لها، فقد تتغير موازين الأجيال، أما إن لم نكن مهيئين لها فسنندم أشد الندم. فتمسكوا بثوراتكم، واستعدوا لفرص قد تكون كالريح؛ من التقطها نجا وأنجى، ومن فاتته هلك وأهلك من بعده.