هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
رئيس وزراء السودان المعزول عبد الله حمدوك لم يصمد طويلاً في موقع «القطب» السياسي المدني الذي يواجه أقطاب الجيش السوداني، ويختزل في شخصه طموح الشارع الشعبي إلى حكم يُخضع الجنرالات إلى مدنيين تسمّيهم صناديق الاقتراع وتُعهد إليهم مسؤوليات إدارة البلاد في شتى المستويات. والذين راهنوا على تمسكّه بالمواقف المبدئية التي أعرب عنها مبكراً صبيحة 25 تشرين الأوّل (أكتوبر) الماضي، بما في ذلك وضع متغيرات ذلك النهار تحت تصنيف الانقلاب، خاب أمل بعضهم بالطبع. ولكن بعضهم الآخر توجّب عليه أن يتذكر الحقيقة الأمّ: أنّ الرجل، حتى إذا كان خيار المجلس المركزي لقوى الحرية والتغيير، ليس ثورياً بما يكفي لتجذير خيارات حاسمة في وجه العسكر؛ بل لعله أثبت مقدرة ملحوظة على «بلع» إهانة الجنرالات لشخصه وموقعه ومنصبه، حين عُزل واحتُجز ووُضع قيد الإقامة الجبرية، ثمّ اقتيد (عملياً) إلى القصر الجمهوري لتوقيع الاتفاق مع البرهان.
وثمة رأي، وجيه تماماً في الواقع، يقول إنّ موافقة العسكر على اختيار حمدوك رئيساً للوزراء كانت جزءاً من صفقة الرضوخ التي اضطرّ الجيش إلى إبرامها مع المدنيين، تحت ضغوط أفريقية ودولية لم تغب عنها مؤسسات شديدة الفاعلية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي؛ وأنّ الاضطرار كان خطوة تكتيكية إجبارية، أتاحت للجنرالات ترتيب البيت العسكري والأمني الداخلي قبيل الانقضاض على اتفاق الشراكة مع المدنيين، كما تمثل في «الوثيقة الدستورية» لشهر آب (أغسطس) 2019. ذلك لأنّ المخاطر التي كانت تنتظر أمثال عبد الفتاح البرهان وشريكه الأوّل محمد حمدان دقلو من تسليم السلطة إلى المدنيين كانت جسيمة، سواء على صعيد محاسبة أدوارهم في زمن نظام البشير، أو جرائم الحرب في دارفور، أو مؤسسات الفساد والإثراء غير المشروع والتورّط في تغذية حروب الجوار بالميليشيات.
هذا صنف واحد فقط من حسابات الحقل الذي اشتغل الجنرالات على زراعته، ولم يجدوا خياراً آخر سوى المسارعة إلى حصاده مبكراً عبر الانقلاب المباشر والصريح، حيث حتّمت الإطاحة بالمدنيين أن يكون حمدوك نفسه في السلّة ذاتها. ولأنّ غالبية صريحة من أبناء الشعب السوداني رفضت الانقلاب، ليس حبّاً بالمدنيين المنقسمين على أنفسهم وبرامجهم بل انحيازاً إلى انتفاضة كانون الأوّل (ديسمبر) 2018؛ ولأنّ واشنطن ضغطت، محرجة تماماً بالطبع، ولوّحت بإيقاف المساعدات المالية؛ ومثلها فعل الاتحاد الأوروبي، والاتحاد الأفريقي، والأمم المتحدة؛ ولم تقدّم العواصم التي غمزت للانقلاب، من موسكو والقاهرة إلى الرياض وأبو ظبي، ما يكفي من حلول لوجستية لإزالة الحرج أو التلاعب فيه وعليه؛ لهذه، وسواها من الأسباب، ارتبطت حسابات حقل البرهان بما يمكن أن يُحفظ من حصاد في… بيدر حمدوك، ذاته دون سواه !
مأزق الأخير لا يبدو، اليوم، منحصراً في تحوّل شارع شعبي واسع ضدّ مشروع «القطب» الذي كان حمدوك مرشحاً لتعزيزه لو أنه صمد في وجه العسكر، أكثر وأطول، فحسب؛ بل، كذلك، في هتافات الشارع ذاته وهي تتهم الرجل بـ»خيانة الثورة». وجه آخر للمأزق يصنعه شركاؤه الجدد، العسكر أنفسهم هذه المرّة، لأنّ الأسابيع التي أعقبت الانقلاب شهدت سهرهم على تطهير مؤسسات الدولة المختلفة من المعارضين وبذور المعارضة، وزرع الأتباع وأنصار الجيش؛ بحيث يصبح وزراء «الكفاءات» الذين سيترأسهم حمدوك أقرب إلى حكومة تصريف أعمال، تنفّذ إرادة العسكر. الوجه الثالث تعكسه اللغة الخشبية التي اعتمدها حمدوك في تبرير اتفاقه مع البرهان، أي حقن الدماء والحفاظ على المكتسبات؛ وكأنّ الذي أراق دماء السودانيين ليس جيش البرهان وحميدتي، وليس أجهزة الأمن وميليشيات «الدعم السريع».
ويبقى أن أيّ تطابق بين حسابات حقل البرهان بيدر حمدوك رهن بأداء شارع الاحتجاج الشعبي السوداني، أياً كانت مقادير القصور والتفكك والعجز ضمن «أقطاب» أخرى تزعم تمثيلها «قوى الحرّية والتغيير»؛ فالمعادلة هنا جدلية، بقدر ما هي حيّة وحيوية.
(القدس العربي اللندنية)