هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
بعد انتخابات مجلس النواب عام 2018، بدا واضحا أن القواعد التي حكمت اللعبة السياسية في العراق قد تغيرت، فللمرة الأولى يدخل السلاح بشكل مباشر ضمن هذه القواعد، وللمرة الأولى يحتكر القرار الشيعي، تحديدا تسمية رئيس مجلس الوزراء، طرفان شيعيان هما سائرون والفتح (ويضم المنشقين من التيار الصدري والمنشقين عن المجلس الأعلى وبعض القوى الصغيرة الأخرى الحليفة لإيران) في مقابل إخراج طرفين شيعيين آخرين كانا فاعلين رئيسيين بعد 2003، من معادلة القرار السياسي الشيعي، وهما تحديدا حزب الدعوة بطرفيه نوري المالكي، وحيدر العبادي، والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، بشقيه التاريخي والحديث والذي يمثله تيار الحكمة.
اليوم، يبدو المشهد أكثر تعقيدا؛ ذلك أن النتائج الأولية المعلنة حتى اللحظة أظهرت فوز سائرون/ التيار الصدري بما يقارب 41.7٪ من عدد المقاعد الشيعية في مجلس النواب، وهو رقم كبير جدا وغير مسبوق (أعلى حصيلة وصل اليها التيار في العام 2018 كانت بحدود 29٪ من المقاعد الشيعية) فيما لم يحصل أقرب منافسيه، شيعيا، وهو تحالف دولة القانون سوى على أقل من نصف عدد مقاعد التيار (حصل على 35 مقعدا) أو ما نسبته 20٪ من المقاعد الشيعية. في حين مُني تحالف الفتح بخسارة مدوية، فهو لم يحصل، حسب الأرقام المعلنة حتى اللحظة، سوى على 14 مقعدا، أي ما نسبته 8٪ فقط من المقاعد الشيعية في المجلس، بعد أن كان قد حصل على 48 مقعدا في انتخابات عام 2018، مع تكريس خروج المجلس الأعلى وتيار الحكمة وحزب الدعوة جناح العبادي. من هذه المعادلة تماما!
لابد من التشديد هنا على أن المقاعد لا علاقة مباشرة لها بعدد الأصوات التي حصلت عليها القوى السياسية، ومن ثم مدى شعبيتها أو عدم شعبيتها كما يحاول الكثيرون ترويجه، بدليل أن الفائز الأكبر، وهو التيار الصدري، قد فقد مئات الآلاف من الأصوات التي كان قد حصل عليها في عام 2018، فيما لم تترجم الأصوات الكثيرة التي حصلت عليها القوى الأخرى إلى مقاعد بسبب جملة عوامل، على رأسها سوء تنظيم الحملة الانتخابية وإدارتها.
بعيدا عن لغة الأرقام، والمقاعد، كان واضحا أن معادلة السلاح كان لها شروطها أيضا، وقد أكدنا على ذلك قبيل الانتخابات، وقلنا إن الصراع في العراق ليس صراعا سياسيا تحكمه نتائج الانتخابات، وذلك بسبب امتلاك العديد من القوى السياسية أجنحة مسلحة معلنة، وبالتالي فإن هذا السلاح وعلاقات القوة، فضلا عن طبيعة العلاقة بالفاعل الأهم في العراق وهو إيران، هو الحاكم هنا، وليس عدد المقاعد التي حصل عليها هذا الطرف أو ذاك.
ففي سياق معادلة السلاح، لن يقبل أي طرف مسلح أن يحكمه طرفٌ مسلحٌ آخر، كما لن يقبل أي طرف (مسلح) أن تشكل حكومة لا يكون جزءا فيها، والجميع يعلم هذه الحقيقة بعيدا عن الخطابات السياسية! فالسلاح دون حصانة السلطة لا يمكن أن يكون قوة ذاتية حقيقية، كما أن السلاح دون ريع السلطة والاستثمار في المال العام، لا قيمة له أيضا!
وفي سياق هذه الحقيقة، يدرك مقتدى الصدر أن لا إمكانية حقيقية لوصول صدري «قح» إلى موقع رئيس مجلس الوزراء، كما يعلم تماما أن ثنائية حكومة الأغلبية السياسية التي تتشكل من سائرون (الشيعية) وتقدم (السنية) والديمقراطي الكردستاني، في مقابل «معارضة» مفترضة تتشكل من قوى شيعية وسنية وكردية، هي خرافة قابلة للسرد في سياق الدعاية السياسية ليس أكثر! وهو يعلم تماما، كما الآخرون، أنه لا يمكن الحديث عن أي منتم أصيل لأي طرف في موقع رئيس مجلس الوزراء، وأن مرشح تسوية يقبل به الجميع هو الإمكانية الوحيدة العقلانية هنا، وبالتالي يجب التعامل مع التغريدات والخطابات على أنها مجرد رسائل تفاوضية ليس أكثر من زجل الحصول على مكاسب أكثر!
في العام 2018 احتكر تحالفا سائرون والفتح قرار تسمية مرشح التسوية، بدعم صريح من النجف وطهران، وقد أثبتت الوقائع اللاحقة أن مرشح التسوية هذا جاء بخلاف الرغبة الأمريكية، وهو ما انعكس سلبا على العلاقات العراقية الأمريكية، خاصة في ظل العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران. وقد كان واضحا أن الفاعل السياسي الشيعي، قد أخذ ذلك بعين الاعتبار عند ترشيحه مصطفى الكاظمي عام 2020، بعد استقالة حكومة عبد المهدي في اعقاب حركة احتجاجات تشرين الأول/اكتوبر وما صاحبها من عنف مفرط. فقد كان الفاعل السياسي الشيعي حريصا على المجيء بمرشح مقبول إيرانيا وأمريكيا، وليس لدى أي من الأطراف الشيعية، بما فيها النجف، اعتراض علية.
اليوم سيتكرر سيناريو مرشح التسوية وسيحتكر الإطار التنسيقي (نواته دولة القانون والفتح) وسائرون تسمية هذا المرشح، ومع عدم حسم المفاوضات الأمريكية الايرانية حول الملف النووي الإيراني، سيكون الجميع مجبرين على أن يكون مقبولا إيرانيا وأمريكيا، وهو ما سيجعل قائمة الاختيارات محدودة جدا لاسيما مع تضاؤل فرص مصطفى الكاظمي للعودة لولاية ثانية بسبب اتهام قوى الإطار التنسيقي له بأنه كان أقرب إلى الصدريين أولا، وبسبب ما يعدُّونه عدم التزام الرجل بالتوازن المطلوب في علاقاته الأمريكية.
لم تكن الطائرة المسيّرة التي قصفت بيت الكاظمي مجرد رد فعل على المواجهات التي حدثت مع المحتجين من أفراد فصائل القوى الرافضة لنتائج الانتخابات، بل كانت تحمل رسالة أهم، وهي جاءت في سياق رسائل الكاتيوشا التي أرسلوها إلى أكثر من جهة، محلية وإقليمية ودولية، خلال العامين الماضيين، وهي أن حملة السلاح، ومن خلفهم، لن يقبلوا بأي معادلة سياسية لا تعترف بموقعهم فيها، وهم مستعدون للذهاب إلى أقصى مدى يمكن تخيله في سبيل ذلك الاعتراف!
(القدس العربي)