هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
يتناول الكاتب والسياسي الأردني هشام البستاني مفهوم "الكيان الوظيفي" في مجلدين من 530 صفحة، محاولا فكفكة الأدوار الوظيفية لما أسماها "كيانات ومجموعات حاكمة" تفرض سيطرتها من خلال "تفكيك المجتمعات إلى مجموعات، بناء الهويات المتعارضة، وتدمير المجتمع المسّيس، منتجة بذلك التصحير السياسي".
ويوضح الكتاب مفهوم "الكيان الوظيفي"، وكيفية افتراقه عن مفهوم "الدولة"، بالعودة إلى الجذور الاستعمارية المُؤسسة للتبعية، عبر طرح أمثلة تطبيقية لثلاثة من "الكيانات الوظيفية المترابطة" هي: الأردن، فلسطين، إسرائيل.
يجيب البستاني عن سؤال لماذا عجزت الكيانات التي خلّفها الاستعمار في المنطقة العربية عن تحقيق التنمية والديمقراطية وإنجاز الاستقلال الفعلي؟ وما الذي يربط مجموعاتها الحاكمة بدائرة عبثية مدمرة تظل تعيد إنتاج التبعية والتسلط والفساد؟ مسلطا الضوء على فشل ثورات الربيع العربي في عام 2011.
وبالرغم من منع إقامة حفل إشهار الكتاب في الأردن في آب / أغسطس الماضي في المركز الثقافي الملكي، وهو مركز ثقافي عام، استطاع الكاتب البستاني إطلاق كتابه وتوقيعه في عمان في نهاية تشرين الأول / أكتوبر في فضاء ثقافي خاص، هو مسرح الشمس.
"عربي21" حاورت مؤلف كتاب "الكيانات الوظيفية: حدود الممارسة السياسية في المنطقة العربية ما بعد الاستعمار"، للكاتب والمؤلف الأردني هشام البستاني، والصادر مؤخرًا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر.
بداية حول مفهوم "الكيان الوظيفي"، يقول البستاني: "هذا المصطلح كان موجودا قبل تأليف الكتاب، لكنه كان يستخدم ضمن سياق الشتم والذم لوصف كيان سياسي على درجة كبيرة من التبعية، من جهتي، وجدت في المصطلح طاقة تعبيرية كبيرة أسبغت عليها بحثًا معرفيًّا علميًّا مشتقًّا من حقول عدّة، محوّلًا المصطلح إلى مفهوم قادر على الوصف العميق، ألحقت بها نظريّة قادرة على التفسير، تفسير واقعنا فيما يطلق عليه ’العالم الثالث‘ عمومًا، وفي منطقتنا العربيّة خصوصًا".
يتابع: "في الجزء الأول من الكتاب عرّفت الفرق بين الدولة والكيان الوظيفي، إذ لا يمكن اعتبار جميع الكيانات السياسيّة الموجودة اليوم في العالم المعاصر ’دولا‘، إن أخذنا بعين الاعتبار تعريف ماكس فيبر الذي يعتبر احتكار ممارسة العنف، وشرعية تلك الممارسة، ركنًا أساسيًّا من أركان تعريف الدولة. إن نظرنا إلى هذا التعريف على المستوى الدولي، نجد أنه ناقص، إذ أن بعض الكيانات السياسية تمارس العنف على كيانات سياسية أخرى، وتحتكر في سياق ذلك، شرعية ممارسة ذلك العنف. لذلك، عرّفت الدولة بأنها الكيان السياسي القادر على ممارسة العنف دوليا، و/أو القادر على ردع ممارسة العنف عليه من الخارج، بينما التشكيلات الأخرى -الكيانات الوظيفية- يمارس عليها هذا العنف ولا تستطيع ردعه، ويتم التدخل بها بأشكال مختلفة، وتكون سيادتها منقوصة إلى حدّ كبير، وهي كيانات أنتجت –عمومًا- من خارجها، كامتداد لحقبة الاستعمار".
وبحسب البستاني: "لم يغادر الاستعمار منطقتنا بالكامل، وترك خلفه روابط اقتصادية قوية مع الدول المُستعمَرة، ونخبًا سياسية ومنظومات أحدثها، أو هي مرتبطة به، مثل القوانين، والجيوش، والدساتير، والتعليم، والإدارة. مثلًا: الجزائر، ورغم أنها تحرّرت من الاستعمار عبر سنوات من النضال البطوليّ، ظلّت مرتبطة بمعاهدة ربطت اقتصادها إلى حدّ كبير بفرنسا؛ كما بقيت مناطق النفوذ التي تتصارع عليها القوى الإقليمية والدولية في سياق تغيّر موازين القوى بينها، مثلًا: الصراع بين إيطاليا وفرنسا (وفوقهما قوى إقليميّة ودوليّة متعددة) في ليبيا ما بعد القذافي؛ أو صراع القوى الدوليّة والإقليميّة والمحليّة بالوكالة في لبنان، أو في العراق. هذه هي الأمثلة الواضحة على ’وظيفيّة‘ الكيانات الوظيفيّة، ومجموعاتها الحاكمة، وفي كثير من الأحيان: قواها السياسية والمجتمعيّة".
يرى الكاتب أن الدول تضم مؤسسات حكم حقيقية وفاعلة، بينما في "الكيانات الوظيفية هناك قشور لمؤسسات، أسميها: أطر إدارة السيطرة. في الدول، ولكي يتحقق ما يسميه أنطونيو جرامشي بـ’الهيمنة‘، لا يكفي وجود قوة إكراهية (مثل الجيش والشرطة والقضاء – أي ما يسمى بـ’المجتمع السياسي‘)، وإنما يجب أن يتراق ذلك ويكتمل بالقوة الإقناعية، أو الإغوائيّة، والتي يراها جرامشي أعمق أثرًا، وهذه تتحقق من خلال ’المجتمع المدني‘ (الأحزاب والنقابات والجمعيات والصحافة، ومجمل الوجود السياسيّ ’الخاص‘، أي الذي لا يتبع للسلطة). في الكيانات الوظيفية، لا يتحقّق مفهوم ’الهيمنة‘ أبدًا لأن المجتمع السياسي، القوة الإكراهية للسلطة، تضعها وتفككها وتلغيها، لأنها تعتبرها التهديد الأبرز لاحتكارها للسلطة، وبالتالي، التهديد الأبرز لبقائها".
يطبّق الكتاب بعضًا من مفاهيمه على الحالة الأردنية، إذ يقول المؤلف إن هذه الحالة ينطبق عليها ما ينطبق على الكيانات العربية التي أنشأها الاستعمار في خضم صراعه على النفوذ، ورسمت حدودها الدول المستعمِرة، هذا الجذر الاستعماري، واستمراريّته بأشكال تدخّليّة مباشرة وغير مباشرة، أدى لعدم نشوء مجتمع سياسي (سلطة) يريد أن يُحدث تنمية واستقلالا اقتصاديا وسياسيا، بل أنتج مجموعة حاكمة تريد استمرار جذر بقائها الوظيفيّ من خلال التواؤم مع، وتنفيذ، وفرض، سياسات لصالح القوى الدولية التي تملك القدرة على ممارسة العنف عليها، لا لصالح الكيان السياسي نفسه، ولا لصالح المجتمعات المحليّة؛ هذا هو جذر التبعيّة المدفوع أولًا وأخيرًا برغبة المجموعة الحاكمة في المحافظة على وظيفيّتها الإقليميّة والدوليّة، وبالتالي: بقائها".
ويشير الكاتب إلى أدوات اقتصادية للهيمنة على "الكيانات الوظيفية" مثل "لبرلة الاقتصاد" من خلال القروض وصندوق النقد والبنك الدوليين اللذين يريدان تصفية القطاع العام، وخصخصة الاقتصاد، وإلحاق الأسواق المحليّة بالسوق العالمية الرأسماليّة التي تسيطر الدول الكبرى عليه. لكن هذا لا يعني أن المجموعات الحاكمة منفعلة دومًا وغير فاعلة، بالعكس: فهي تحاول دومًا أن تشتقّ لنفسها أدوارًا وظيفيّة أكبر، أو توائم أهميّتها الوظيفيّة في حال تغيّرت القوى الدولية المهيمنة أو اختلّت توازناتها، أو توازن بين متطلّبات وظيفيّتها الخارجيّة ومتطلّبات وظيفيّتها الداخليّة. مثلًا: في الأردن، تتطلّب الوظيفيّة الخارجيّة إنفاذ برنامج اللبرلة والخصخصة وإنهاء القطاع العام، فيما تتطلّب الوظيفيّة الداخليّة الإبقاء على المجتمع الزبائني بما يعنيه ذلك من أهميّة للقطاع العام والوظيفية العامة كمساحة لشراء الولاءات للسلطة. هذان الدوران الوظيفيّان متعارضان، وتقوم السلطة بالتدخل المستمر، والفعالية المستمرة، للحفاظ على توازن بين الوظيفيّتين لتأمين بقائها.
ويرى الكاتب، أنه وفي ظل انعدام لوجود تنظيم سياسيّ يمثّل مصالح الناس، ويقدر على تحويل الأشكال الاحتجاجيّة الشعبيّة إلى مكاسب سياسية واجتماعية واقتصادية شعبيّة، فإن السلطة قادرة على توظيف حتى الاحتجاجات التي تقوم ضدّها، وتجني منها مكاسب تعينها على البقاء، مثال على ذلك خروج الناس في مظاهرات غير مسبوقة عام 2018، احتجاجًا على قانون ضريبة الدخل في الأردن، لتقوم السلطة (في غياب التنظيم السياسي القادر على حصد المكاسب للجمهور المحتجّ) باستخدام تلك الاحتجاجات للحصول على مساعدات مالية من بعض الدول الخليجيّة، وإقناع صندوق النقد الدولي بتمديد الفترة الزمنية المطلوبة لإنفاذ برامجه الاقتصادية من ثلاث سنوات إلى ست سنوات، ما يعني تعزيز بقاء المجموعة الحاكمة ودورها الوظيفيّ.
وحول إمكانية قيادة "المجموعات الحاكمة" في "الكيانات الوظيفية" لديمقراطية حقيقية وتنمية يقول البستاني: "خلال عقود طويلة من سيطرتها، دمرت المجموعات الحاكمة في المنطقة العربية المجتمع المسيّس وقواه الفاعلة تدميرا شاملا، ممارسة ما أسميه ’التصحير السياسي‘، وآخرها –كمثال- ما جرى مع نقابة المعلمين في الأردن. تم إضعاف أو احتواء أو تصفية الوجود السياسيّ الفعّال للأحزاب والنقابات، لكونها مصدر خطر، في الكيان الوظيفي، على المجموعات الحاكمة التي تريد أن تحتكر السلطة إلى ما لا نهاية. هذا يضمن انعدام منافسة السلطة، لكنه يولد مجتمعًا متفجرًا وغير متوازن، يمكن القوى الخارجية من مزيد من الأدوات لابتزاز الكيان الوظيفيّ ومجموعته الحاكمة، ما يفاقم مشكلة التبعيّة، ويفاقم من وظيفيّة الكيان الوظيفيّ".
هل هذا قدر محتوم للمجتمعات العربية؟ وما مصير الحراكات العربية؟ يجيب البستاني: "المجتمعات العربية مجتمعات متفجرة، والأزمات بها مستمرة وتتفاقم؛ مثلًا في الأردن حدثت هبات كبيرة ومتعددة منذ عام 1989 حتى الآن، وستستمرّ هذه الهبّات في الحدوث –شئنا أم أبينا- لأن الكيان الوظيفي هو كيان مولّد للأزمات، لذا فقدر المجتمعات في المنطقة العربيّة (بعكس ما قد يظنّ من ’تشاؤم‘ أطروحتي) هو استمراريّة الانتفاض. السؤال الأهم هو: هل هذه الهبات منتجة؟ السؤال الأهم هو: كيف نخرج من الأزمة التاريخية في مواجهة السلطة بعدما أفقدت هذه الأخيرة المجتمع أدواته السياسية. هل الخروج منها يكون باستخدام نفس أدوات الكيانات الوظيفية وهياكلها، أي من داخل هذه الهياكل؟ هنا مربط الفشل في التغيير الذي وصلنا إليه عندما دخلت التيارات السياسية العربية المعاصرة مصيدة الكيان الوظيفيّ وعملت من داخله، فأفرغت نفسها من مضمونها، وخضعت للهندسة السياسية التي تهدف فقط لبقاء المجموعات الحاكمة عبر توظيف جميع عناصر الكيان السياسي لصالح هذا الهدف. علينا أن نفكر اليوم بالكيفية التي نكسر بها هذه الحلقة المفرغة، عبر اشتقاق مساحات سياسية خارج أطر سيطرة السلطة، هذا تغيير يقع خارج ميكانيزمات الكيان الوظيفيّ ومحدّداته، أما ما يسمى بـ’الإصلاح‘ فهو ليس إلا مساهمة بإطالة عمر الكيان الوظيفي ومجموعته الحاكمة".
يرى الكاتب أن الانتفاضات العربيّة التي انطلقت في 2011 "لم تنتصر أصلًا لكي تُهزم"، إذ يبين أن "40 سنة من التصحير السياسي، منعت الناس من امتلاك أدوات وأطر وتنظيمات التغيير السياسي مثل الأحزاب والبرامج البديلة وإمكانيّات خلق سلطة مشتقة من الناس، الأمر الذي يعني أن المجموعات الحاكمة بقيت في مكانها –وإن أطيح بواجهة بعضها-، وقويت شوكتها، وظلّت هي اللاعب الأقوى كما نشاهد اليوم في السودان، وتونس التي لطالما اعتبرت ’الاستثناء‘ ليثبت أنها لم تشذ عن القاعدة".
"مثال آخر على ذلك هو مصر التي أطاحت انتفاضتها بحسني مبارك، ليأتي مكانه المجلس العسكري، ثم انتخابات امتصت غضب الناس، وأفرزت رئيسًا هو محمد مرسي، لم تكن لديه السيطرة على الجهاز الأمني والعسكريّ، ليطيح هؤلاء به بعد فترة لم تطل، وتعود المجموعة الحاكمة نفسها من خلال الرئيس عبد الفتاح السيسي".
يذكر أن هشام البستاني هو كاتب وأديب، نشرت مساهماته الفكريّة في دوريّات ومجلّات وصحف عربيّة وعالميّة عدّة، من أبرزها الآداب وحبر وسطور ومونثلي ريفيو وراديكال فيلوسوفي وميدل إيست ريبورت، وترجمت إلى أكثر من اثنتي عشرة لغة؛ فيما حازت كتاباته السرديّة والشعريّة، المنشورة في خمسة كتب هي عن الحب والموت (2008)، والفوضى الرّتيبة للوجود (2010)، وأرى المعنى (2012)، ومقدّماتٌ لا بدّ منها لفناءٍ مؤجّل (2014)، وشهيقٌ طويلٌ قبل أن ينتهي كلّ شيء (2018)، على جوائز دوليّة، وترجم منها إلى الإنجليزيّة كتابان، فيما نشرت ترجمات لنصوصه الأدبيّة، متفرّقة، في مجلّات وأنطولوجيّات متعدّدة، بلغاتٍ سبع أخرى.