قضايا وآراء

مخاض الفكر الإسلامي الحديث

عبد الرحمن أبو ذكري
1300x600
1300x600

أجملنا القول - في مقال سابق - في المفاتيح الثلاثة للفكر الإسلامي الحديث، ثم بسطناه في بيان أولها وأهمها: مركزيَّة المدونة الضخمة للكُتَّاب والمفكرين المصريين. وقد بيَّنا المراحل الثلاث التي مرَّت بها المدوَّنة (ما قبل الاحتواء السعودي، ومرحلة الاحتواء، ثم مرحلة تقوض الاحتواء الحالية)، وبعض ملامح هذه المراحل. لكن لَزِمَنا بسط القول في المرحلة الأخيرة - التي نعيشها اليوم - إذ تمثِّل أفق الغد الذي نحاول تشكيله، بوصفها من صور المخاض الفكري "الحر"، رغم ما قد يتوهَّمه الكثيرون من قيود، لاستمرار المحاذير السياسية نفسها. ومن ثم، سنجعل تناولنا للمخاض الحالي استمراراً لما بدأناه، وبسطاً للقول في المفتاحين الثاني والثالث المرتبطين ببعضهما ارتباطاً عضويّاً، وهما: النفوذ الأمريكي في "المنطقة" وآثاره الثقافيَّة، إذ يتجلَّى في المفتاح الأخير الذي جسَّدهُ تمدُّد النفوذ الديني والاقتصادي السعودي؛ لينتزع القيادة السياسيَّة من مصر، ويتلو ذلك بمحاولة تقويض مدونتها الفكرية وبناء مدونة جديدة تنتقِلُ إليها هذه المركزيَّة، وهو ما أخفَق فيه السعوديون إخفاقاً مُريعاً لتقيُّد الجدل الفكري- الاجتماعي بالأفق "الفقهي" الضيق(1)، الذي بُنيَت عليه الشرعية السياسية للدولة.

هذا السقف الفكري والفقهي المنخَفِض، جعل مناعة البيئة السعوديَّة شديدة الهشاشة، وذلك كما جعل تمدُّد نفوذها - من قبل - تمدُّداً أيديولوجيّاً سجاليّاً مُصطنعاً، يعتمدُ استمراره على استمرار تدفُّق التمويل، على النقيض من النفوذ المصري "البائد"، الذي كان قوامه ريادة فكريَّة حقيقيَّة. لكنَّ الأنكى أن هذا "السقف الخانِق" قد أدى إلى ضمور كثير من أدوات أهلها - الفكريَّة والفقهيَّة - إلا من رحم ربك، ومن ثم؛ استعدادهم لتقبُّل أكثر ما قد يَرِدُ عليهم بغير إمعانٍ في النظر، وذلك بمجرَّد إتاحة كوة صغيرة لـ"التبادُل" الثقافي مع الخارج. وهو ما تجلَّى فاضحاً في مثال نماذجي لمنصَّة سعوديَّة تنشر المقالات "الفلسفيَّة"، بدأت أول الأمر إلكترونيَّة، ثم دشَّنَت دوريَّة فلسفية ورقية، وها هي اليوم تنشر ثلاثين كتاباً مُترجماً، في موضوعات فلسفية "جديدة" - نسبيّاً - على البيئة التي تُنشَر فيها. صحيح أن مثل هذه النصوص كانت تستورَد للنُخَب الثقافيَّة السعودية بكميات محدودة من مصر والمغرب، وغيرها؛ بيد أن نقل السجالات والتحديات التي تمثلها موضوعاتها من الهامش إلى المركز، بما تُمثله من تحدٍّ لكل البِنى الفكرية والفقهية المجوَّفة والجامدة، وذلك في محاولة ساذجة لتحقيق "الاكتفاء الذاتي" بمدوَّنة نصوص نفَّاذة بهذا القدر "الخطورة"، وفي بيئة بهذه الهشاشة؛ سوف يُفضي إلى اكتمال التفكُّك الأيديولوجي بسرعة، وبغير أدوات؛ مُنذراً بعواقب عقديَّة وفكريَّة وأخلاقية وخيمة.

هذا السقف الفكري والفقهي المنخَفِض، جعل مناعة البيئة السعوديَّة شديدة الهشاشة، وذلك كما جعل تمدُّد نفوذها - من قبل - تمدُّداً أيديولوجيّاً سجاليّاً مُصطنعاً، يعتمدُ استمراره على استمرار تدفُّق التمويل، على النقيض من النفوذ المصري "البائد"، الذي كان قوامه ريادة فكريَّة حقيقيَّة

إنه إذا كانت بعض موضوعات الجدل الفكري - مثل جدل السفور والحجاب - في مصر تعود إلى قرن ونصف مَضَيا، وإذا كان هذا الجدل "الحر" - نسبيّاً - ثمرة تجاذُب عدد من القوى الاجتماعية، والمؤثرات الفكرية، علاوة على عناصر ثقافية أقحمتها القوى الكولونيالية على السياق - لأغراض خاصة - فإن هذا الجدل "المستمر" قد راكم بالتدريج حُججاً "صلبة" نسبيّاً عند الجانبين، وبلور أدواتهما الحجاجية وشحذها، وكشف للفقهاء "التقليديين"، كما للمثقفين الجُدد، أبواباً كلاميَّة جديدة - وإن كانت بعض عناصرها ومُدخلاتها مُصطنعة زائفة - بوسعهم بدء نظرهم انطلاقاً من مقولاتها، لإعادة بناء آرائهم "الأصوليَّة" في المسائل المستجدَّة، بحسب تغيُّر الواقع.

هذا "البأس الجدلي" لا تفتقده الساحة الفكريَّة والفقهيَّة السعوديَّة فحسب، وإنما تفتقر إلى أدواته "الكلاميَّة" الفعَّالة، علاوة على من يملك مقدرة صياغة هذه الأدوات. ولا يغُرَّنك كثرة السجاليين المنافحين عن مذهب الدولة، ولا كثرة من يُطالعون أحدث نتاج الغرب فيما يُسمى بـ"العلوم الإنسانية"، ولا حتى هؤلاء "المخلصين" الذين يحاولون التصدي للموجات الإلحاديَّة؛ فإن مَلَكَة صياغة الأدوات الكلاميَّة الفعَّالة - تفكيكاً وتركيباً - ليست مما يحوزه هؤلاء ولا أولئك!

وها هُنا، يُفترض أن تكون الصلة بين "المخاض الفكري" الذي نعيشه اليوم، بوصفه سبباً ونتيجة في آن واحد لتقوض الاحتواء السعودي للمدونة الفكرية المصريَّة - والفكر الإسلامي عموماً - وبين تآكُل نفوذ المفتاحين الثاني والثالث، من مفاتيح فكرنا الحديث، قد بدأت بالتبلور في ذهن القارئ. فإذا كان المفتاحان المذكوران مُرتبطين ارتباطاً عضويّاً بعضهما ببعض، فإنهما كذلك مرتبطان بهذا المخاض قوَّة وضعفاً.
يُفترض أن تكون الصلة بين "المخاض الفكري" الذي نعيشه اليوم، بوصفه سبباً ونتيجة في آن واحد لتقوض الاحتواء السعودي للمدونة الفكرية المصريَّة - والفكر الإسلامي عموماً - وبين تآكُل نفوذ المفتاحين الثاني والثالث، من مفاتيح فكرنا الحديث، قد بدأت بالتبلور في ذهن القارئ

والمتأمل لتنامي النفوذ السعودي الخارجي، وارتباطه الكلي بتنامي النفوذ الأمريكي في "المنطقة" - خصوصاً منذ ستينيات القرن العشرين - يُدرِك أن الارتباط العضوي يجعل تآكُل الأخير يؤدي إلى تآكل الأول مباشرة، وبأسرع مما يتآكل "الأصل"، بل وسيؤدي كذلك إلى "منحة إلهيَّة" إضافيَّة، وهي: تآكُل النمط العلماني لـ"الحركات الإسلاميَّة" المسيَّسة، مثل جمعية الإخوان المسلمين!

وثمَّة خلاصة يتعيَّن علينا إيرادها، قبل الاستطراد إلى مآلات المخاض - اﻵنف الذكر - فربما يُفيد منها إخواننا من أهل جزيرة العرب في محنتهم الفكريَّة، التي توحي النُذُر بأنها ستتفاقم تفاقُماً مخيفاً خلال العقد اﻵتي؛ ألا وهي: أن الانفتاح النسبي للجدل الفكري- الاجتماعي في "الداخل السعودي"، تزامُناً مع تقوض النفوذ الثقافي والديني الخارجي، يعني عجز الداخل المأزوم عن تصدير أزماته - كما يفعل أي نظام بشري في محاولة البقاء - ومن ثم تفاقُمها، ليصير خياره الوحيد هو مواجهة هذه الأزمات بنفسه، اﻵن وفوراً وبغير تسويف؛ مُفيداً من تجارب الآخرين.

فإذا كان تصدير الأزمات يُتيح للنظام المأزوم تأجيل مواجهتها في الداخل، فإن العجز عن هذا التصدير يُحتم سرعة مواجهتها، قبل أن تُفضي إلى ما لا تُحمد عقباه. وربما كان من لطف الله بأمَّته، أن يعجز النظام الثقافي والديني السعودي عن تصدير اتجاهاته الجديدة (المستورَدة!) - إذ يتدهور نفوذه الخارجي - لتُتاح لباقي الأمة فرصة للإفاقة وربما للتعافي مما ابتُليت به على يديه طيلة أكثر من نصف قرن، فربما أمكنها آنذاك أن تمدَّ - لأهلنا هناك - يد العون الصادق، بعد إذ استنقذت بعض وجودها مما أفسده عليها.

نعم، فقد فاق الإفساد الفكري والديني للنفوذ السلفي- الوهابي كُلاً من مقولات الغلو المذهبي الإيراني، ومقولات الغلو العلماني التُركي؛ إذ كان "مثلث المركزيَّة الإسلاميَّة" -إيران ومصر وتركيا - قد انهار سياسيّاً وانهارت معه مركزيته، قبل أن تتبلور هذه المقولات تبلوراً "نهائيّاً". وكما انتقَلَت "المظاهر" التحديثية - من تركيا إلى إيران - واهنة باهتة، ولم تؤت أكلها؛ فكذلك لم تؤثر العلمانية التركية ولا الغلو الشيعي الإيراني تأثيراً يذكر في بناء "القلب العربي"، مما يُمكننا الاصطلاح عليه بـ"الفكر الإسلامي الحديث". صحيح أنهما تركا آثارهما بطبيعة الحال، بيد أن القسم الأكبر من تأثيرهما السلبي - في المسيرة الفكرية والثقافية للأمة - قد أجهِض، ولم يكن في عنفوان التأثير السلفي-الوهابي لسببين رئيسيين: أولهما الشحن الثقافي العربي المستمر، ضد العلمانية التركية والتشيُّع "الفارسي"؛ وثانيهما نهر التمويل السخي الذي كان الرافد الأهم لبناء النفوذ الثقافي والديني السعودي، الذي لم يجد شحناً مُضادّاً يصده بعد أن ارتبط سياسيّاً واجتماعيّاً وثقافيّاً بحركة "الإحياء السلفي"، منذ بدأ الملك عبد العزيز تمويل رشيد رضا وأضرابه، علاوة على تقويض هذا "التحديث/ الإحياء" نفسه للقاسم الأعظم من النفوذ الاجتماعي للعدو الطبيعي للوهابيَّة: "التصوف"(2).
إذا كان التحديث ونمط الدول القوميَّة القُطريَّة قد أسهم في تقويض إمبراطوريات المركزيَّة الإسلاميَّة الثلاث، فإن مؤسس الدولة السعودية الثالثة "العبقري" قد أدرك طبيعة اللعبة الجديدة، ولم يحاول السباحة ضد التيار والتمدُّد سياسيّاً خارج الحدود المرسومة، بل التزم بحدوده مع محاولة شراء النفوذ الثقافي خارجها

لقد نشأت الدولة السعوديَّة الثالثة على أنقاض الدولة العثمانيَّة، وفي وقت تآكل فيه نفوذ أسرة محمد علي بعد خلع الخديوي عباس حلمي، وتكريس انفصال مصر - نسبيّاً - عن الأمة، وهو ما تزامَن في الوقت نفسه مع انقلاب رضا خان في إيران، التي تآكَلَت -مثلها مثل تركيا ومصر- إلى دولة قوميَّة حديثة؛ تلعق جروح التحديث القطيعي المُنهِكة. وبسبب طبيعة هذه الدول الحديثة نفسها، ومعاناة دول المركزيَّة الإسلامية الثلاث - آنذاك - مع التحديث، وانشغالها بإعادة هيكلة نُظمها السياسيَّة؛ تقلَّص نفوذها الخارجي، وتمكَّنت الدولة السعودية الثالثة من النمو في هذا "الفراغ" باطمئنان.

وبعبارةٍ أخرى؛ فإذا كان التحديث ونمط الدول القوميَّة القُطريَّة قد أسهم في تقويض إمبراطوريات المركزيَّة الإسلاميَّة الثلاث، فإن مؤسس الدولة السعودية الثالثة "العبقري" قد أدرك طبيعة اللعبة الجديدة، ولم يحاول السباحة ضد التيار والتمدُّد سياسيّاً خارج الحدود المرسومة، بل التزم بحدوده مع محاولة شراء النفوذ الثقافي خارجها، وكان هو نفسه أحد أشد أدوات التحديث عتيّاً على جزيرة العرب، منذ بدأ بتوطين البدو، وقمع القوى الدينية- الاجتماعيَّة التي بنى بها دولته.

ولهذا، ففي حين عانت مصر وتركيا وإيران لزمن طويل جرَّاء التحديث؛ فإن الدولة السعودية - على النقيض - قد ازدهرَت به، بوصفها دولة حديثة "بلا تاريخ" سياسي إمبراطوري يعوق التحديث(3)، وبَنَت نفوذها الخارجي ثم الداخلي بأدوات التحديث، بعد أن أفسح لها الظرف التاريخي المجال، وصولاً إلى ستينيات القرن العشرين، وإزاحة مصر من مقعد القيادة، واستسلامها رسميّاً إلى المملكة النفطيَّة(4). ولهذا، يمكننا تفهُّم الرعب السعودي (والأمريكي!) من الثورة الإسلامية في إيران، ومن بعض محاولات "الإسلام السياسي" في تُركيا وغيرها؛ بوصفها تحدياً لهذا النفوذ، الذي كان قد بدأ في الاستقرار لتوه.

هذا المخاض الذي نُعايشه اﻵن، مع التآكل السريع للنفوذ الأمريكي والسعودي؛ لم يعُد "يُنذر" بصعود سياسي إيراني- تركي، بعد أن صار هذا الأخير في حكم الأمر الواقع خلال العقدين الأخيرين، بل واكتسب التمدُّد الثقافي - وأحياناً الاقتصادي والعسكري! - للإيرانيين والأتراك هو اﻵخر أرضاً، ربما كان الخلَف قد نسي أمر "خضوعها" لنفوذ السلف، منذ تآكلت إمبراطوريتيهما على أيدي الأوروبيين قبل قرن ونصف القرن.

هذا التمدُّد يعني أن خارطة "الفكر الإسلامي" نفسها يُعاد تشكيلها من جديد، كما يُعاد رسم خرائط السياسة والاستراتيجيا. وإذا كانت مصر الحاليَّة عاجزة نسبيّاً عن "مُزاحمة" الإيرانيين والأتراك مُزاحمة نديَّة في السياسة والاقتصاد، وربما في القوة العسكرية؛ فإن الواجب عليها أن تحاول شحذ القدر الضئيل المتبقي من مُقدَّراتها الثقافيَّة - وهي مركز ثقلها الحقيقي منذ سقوط حكم العباسيين - لتُسهم في رسم خارطة الفكر الإسلامي الجديدة.
خارطة "الفكر الإسلامي" نفسها يُعاد تشكيلها من جديد، كما يُعاد رسم خرائط السياسة والاستراتيجيا. وإذا كانت مصر الحاليَّة عاجزة نسبيّاً عن "مُزاحمة" الإيرانيين والأتراك مُزاحمة نديَّة في السياسة والاقتصاد، وربما في القوة العسكرية؛ فإن الواجب عليها أن تحاول شحذ القدر الضئيل المتبقي من مُقدَّراتها الثقافيَّة

وبدلاً من أن يتحول المجال الإقليمي الإسلامي إلى مستنسخ من عالم الحرب الباردة ذي القُطبين، أو حتى إعادة إنتاج حداثية لمجال الصراع العثماني- الصفوي، ما قبل الحداثة؛ فإن على الفاعل الثقافي- الديني المصري أن يمد يده بمنجز يجعل منه شريكاً حقيقيّاً؛ يُعيد بناء ما نُسميه بـ"مثلث المركزية الإسلامية"، الذي لن يؤدي فحسب إلى خفض التوتر السياسي والعسكري بين قوى المسلمين الإقليمية الصاعدة، وإنما سيُسهم بالأساس في إعادة توجيهها الوجهة الصحيحة؛ لبناء مستقبل مشترك.

وليس المطلوب من الفاعل المصري اليوم أن يستعيد سياسة "التقريب بين المذاهب" البائدة، ولا أن يحاول شراء النفوذ الثقافي داخل تركيا أو إيران، وإنما عليه فتح مجاله الثقافي والاجتماعي لبناء علاقات صحيَّة مع الأمَّتين؛ تسمح باحتواء غلوائهما، وذلك على قاعدة من النديَّة وحُسن التعايُش، وإخلاص النيَّة في خدمة الإسلام، والتحرُّر من الغرب الكولونيالي، الذي كبَّل الأمة لما يقرُب من القرنين.

فهذه العلاقات وحدها، وهذا الاحتواء المصري للإيرانيين والأتراك؛ هو المركَّب الوحيد الذي يستطيع إعادة بناء "مثلث المركزيَّة الإسلامية" مرة أخرى؛ مستنقذاً المنطقة مما تُعانيه. وعلى إخواننا في جزيرة العرب - إن أرادوا النجاة - الاصطفاف خلف الأخ المصري؛ فليس أمامهم خيار آخر. إذ إن مناوأة الإيرانيين، والكيد للأتراك، والسعي الدؤوب لإجهاض الفاعل الثقافي- الاجتماعي المصري، لن تزيد الطين إلا بلَّة، ولن تكون نتيجتها إلا إعادة تأجيج الصراع في "المنطقة" المنكوبة، وهو صراع لن يكون الرابح منه إلا عدو متربِّص!
__________

 

الهوامش:

(1) المقصود هو سقف التناول الفقهي للواقع، والموضوعات المباحة سياسيّاً لهذا "الاجتهاد" المقيَّد، وإلا فإن النشاط الفقهي "الحقيقي" بمعناه العلمي لم يشهد إفقاراً عمليّاً خلال القرون الأخيرة - لحساب الهيمنة السياسية - مثلما شهده في السياق المذهبي للدولة السعودية الثالثة، رغم كثرة الطنطنة بألفاظ شرعية ضخمة وعلو الضجيج "الدعوي".


(2) لمزيد من التفاصيل حول هذه العملية؛ يُراجع: حميد عنايت، الفكر السياسي الإسلامي الحديث (تنوير للنشر والإعلام، 2021م)، المدخل المعنوَن: ماذا فعلت بنا الحداثة؟

 

(3) منذ انتقال خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام إلى الكوفة، انتهت مركزيَّة جزيرة العرب السياسيَّة، وإن دامَت مركزية قريش عدَّة قرون بعدها، حتى الغزو المغولي الذي محا الحكم العباسي. لكن الشاهد هنا أن الجزيرة لم تمثل وحدة سياسية مستقلة بعدها تقريباً، وحتى الدولة الثالثة؛ فكان على الراغبين من أبنائها في لعب دور سياسي الانتقال إلى عاصمة الحكم في دمشق، أو بغداد، أو القاهرة، أو الأستانة. وجلي أن كل محاولات بناء "التقاليد" السياسية الإسلامية كانت تبدأ من دار "الخلافة"، كما كانت كل محاولات التحديث - الفوقي بالأصل - محاولات لتقويض هذه التقاليد السلطانية والقطيعة معها؛ لتتمكن السلطة الحديثة من التغلغُل اجتماعيّاً - من أعلى إلى أسفل - بعد إزاحة الطواغيت! 

 

(4) راجع مقالنا: "صعود وانحسار النفوذ السلفي"، وهو متاح على شبكة الإنترنت.

 

twitter.com/abouzekryEG
facebook.com/aAbouzekry

التعليقات (0)