قضايا وآراء

الروح المعنوية الفلسطينية ومعوقات الواقع السياسي

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
العامل النفسي هو العامل الأكثر أهمية في صناعة النصر أو الهزيمة، إذ إن قوى النشاط أو التثبيط تتشكل وفقاً لإيمان الناس، أفرادا وجماعات، بقدراتهم وقدرات أعدائهم، فمن آمن بقدراته تذللت له الجبال، ومن آمن بعجزه سقط فريسة طائعة بين يدي عدوه دون أن يفكر في المقاومة.

لذلك يروى في الحديث عن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم: "نصرت بالرعب مسيرة شهر"، النصر بالرعب يعني أن يهزم العدو من داخل نفسه قبل استعمال القوة ضده، ولا شيء يملك سلطاناً على الإنسان أشد من المفاهيم والتصورات التي يشكلها في عقله وقلبه فتصوغ مشاعره وأفعاله.

يروى أيضاً أن المستعمرين الأوروبيين حين غزوا قارة أمريكا فقد كانوا يدفنون خيولهم إذا ماتت، حتى يظن السكان الأصليون أن هذه الخيول لا تموت، وأن هؤلاء الغزاة لا يمكن مقاومتهم وهزيمتهم فتثبط عزائمهم عن المقاومة.

وفي قصص تاريخنا أيضاً أن جندي المغول كان يوقف أحد المسلمين فيأمره بأن يلزم مكانه ولا يتحرك حتى يذهب المغولي إلى بيته فيحضر سيفه، فيقتل المسلم المنهزم من الداخل دون أن يفكر حتى بالفرار.
الحرص على الحرب المعنوية وإنفاق الميزانيات الضخمة فيها يشير من جهة أخرى إلى أن العدو لا يثق تمام الثقة بقدراته الموضوعية، فلو كانت ثقته بقدراته كاملة لما شغل نفسه بإقناع العدو بذلك، لكنه يعلم أهمية العامل النفسي، وأن العدو لو تغيرت قناعته وعلم نقاط ضعفه لأمكن هزيمته

في سياقنا لا يهم درجة الموثوقية التاريخية لهذه القصص، إذ إن الشاهد من ذكرها هو المعنى النفسي الذي تشير إليه. لذلك يحرص العدو دائماً على إحاطة نفسه بهالة من التعظيم، وأن قدراته خارقة لا يمكن التغلب عليها، وأن قوته لا تقهر.

هذا الحرص على الحرب المعنوية وإنفاق الميزانيات الضخمة فيها يشير من جهة أخرى إلى أن العدو لا يثق تمام الثقة بقدراته الموضوعية، فلو كانت ثقته بقدراته كاملة لما شغل نفسه بإقناع العدو بذلك، لكنه يعلم أهمية العامل النفسي، وأن العدو لو تغيرت قناعته وعلم نقاط ضعفه لأمكن هزيمته. وفي ذلك تستحضر القاعدة النفسية أن المبالغة في إثبات الشيء يدل على نفيه، فإذا رأيت العدو يفرط في الحديث عن قدراته الاستثنائية فاعلم أنه يداري لإخفاء ضعف كامن يخشى انكشافه.
في الحالة الفلسطينية فإنه لا شك أن هناك عناصر موضوعية يكتسب منها المشروع الصهيوني قوته، وتمثل معوقات حقيقية للحلم الفلسطيني التاريخي في التحرر والعودة

في الحالة الفلسطينية فإنه لا شك أن هناك عناصر موضوعية يكتسب منها المشروع الصهيوني قوته، وتمثل معوقات حقيقية للحلم الفلسطيني التاريخي في التحرر والعودة.

من هذه المعوقات القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية لدولة الاحتلال، والغطاء الدولي لقوى الاستعمار الذي يحميها ويمدها بأسباب القوة، والواقع الإقليمي المتآمر على الفلسطينيين، إذ إن العلاقة التي تجمع أنظمة الاستبداد بدولة الاحتلال هي علاقة عضوية تستند إلى أن استقرار هذه الأنظمة مرتبط بدولة الاحتلال، وأن بث الروح في النضال الفلسطيني يعني بث الروح في الشعوب الخاضعة لتلك الأنظمة، وهو ما يهدد وجود الأنظمة.

من عناصر قوة المشروع الصهيوني أيضاً الفصل الجغرافي والسياسي الذي نجح المحتل في تكريسه بين الفلسطينيين، والذي حولهم إلى تجمعات متناثرة. ومن العناصر كذلك وجود السلطة الفلسطينية التي تمارس دورا تكامليا مع سلطات الاحتلال في منع اندلاع انتفاضة جديدة شاملة تشتبك مع دولة الاحتلال.

هذه العناصر وغيرها هي حقائق موضوعية تفسر واقع التفوق الذي ينعم به كيان الاحتلال، والعجز الذي يكبل الشعب الفلسطيني، لكن المقياس الأهم لنجاح مشروع الاحتلال هو مدى قدرته على تقويض إرادة التحرر في الشعب الفلسطيني وإفقاده دافع المحاولة. فالوقائع السياسية قابلة للتحول، وما دام الشعب يملك حلما وإيماناً بالقضية فإن كل النجاحات السياسية والأمنية للعدو يمكن أن تنهار يوماً ما، كأنها لم تكن..
هذه العناصر وغيرها هي حقائق موضوعية تفسر واقع التفوق الذي ينعم به كيان الاحتلال، والعجز الذي يكبل الشعب الفلسطيني، لكن المقياس الأهم لنجاح مشروع الاحتلال هو مدى قدرته على تقويض إرادة التحرر في الشعب الفلسطيني وإفقاده دافع المحاولة

ثمة ثلاثة أحداث مهمة، في الشهور الأربعة الأخيرة فقط، منحت الشعب الفلسطيني إحساسا بإمكانية الانتصار، وأضعفت من هيبة الصورة الدعائية، التي طالما سعت دولة الاحتلال إلى تكريسها.

الحدث الأول هو معركة سيف القدس في أيار/ مايو، والتي سجل فيها الفلسطينيون في مختلف أماكن تواجدهم انتصارا مهماً على الصعيد المعنوي، وظهر في تلك المعركة أداء جيش الاحتلال ضعيفا عاجزاً، ولم يغن عنه تفوقه العسكري والتقني شيئاً.

الحدثان الآخران أقل حجماً من مواجهة أيار/ مايو، لكن في الصعيد المعنوي مثلا أيضاً رافعة كبيرة للشعور الوطني الفلسطيني، وهما حادثة قتل القناص شرق قطاع غزة من ثقب الجدار، وحادثة تمكن ستة أسرى في سجن جلبوع من حفر نفق وتحرير أنفسهم.

طالما تباهت دولة الاحتلال بقدراتها الأمنية وعبثية أي محاولة للمقاومة، لكن المعجزة التي تمكن الأسرى الستة من تحقيقها مثلت ضربة معنوية كبيرة لصورة التفوق التي تستثمر فيها دولة الاحتلال، فقد تمكنوا من حفر النفق من داخل السجن، وهم لا يكادون يملكون شيئا من الأدوات، وتمت العملية خلال زمن طويل، بسرية تامة، دون أن تتمكن إجراءات السجن المشددة من تفتيش وتدقيق؛ من اكتشاف أمرهم، ثم خرجوا دون أن تكتشف أبراج المراقبة أمرهم، واختفوا عن أعين الرصد الأمنية المكثفة، حتى لحظة كتابة هذه السطور.
أيا كانت النهايات، وحتى لو تمكنت أجهزة الاحتلال من الوصول إليهم في ظل سيطرتها على الميدان، فإن هذا لا يقلل شيئا من قيمة الإنجاز النفسي الذي تمكن هؤلاء الأسرى من انتزاعه بقوة الإرادة

وأيا كانت النهايات، وحتى لو تمكنت أجهزة الاحتلال من الوصول إليهم في ظل سيطرتها على الميدان، فإن هذا لا يقلل شيئا من قيمة الإنجاز النفسي الذي تمكن هؤلاء الأسرى من انتزاعه بقوة الإرادة.

ما يجمع بين الأحداث الثلاثة سالفة الذكر، هو أنها عززت إيمان الإنسان الفلسطيني بذاته الوطنية، وأسقطت صورة الهيبة التي يعمل كيان الاحتلال جاهداً منذ عقود على تعزيزها، لقد أثبتت هذه الأحداث للإنسان الفلسطيني العادي أن عدوه ليس خارقا، بالدرجة التي كان يصورها عن نفسه، وأنه يتضمن نقاط ضعف تجعل من هزيمته أمرا ممكناً، بل وحتميا.

لا تزال العوائق السياسية قائمة، لكن ما لا يمكن تجاهله أن روحا جديدة تنبعث وتتصاعد، هذه الروح تمنح الناس دافعا للفعل والإبداع، وتساهم في نزع الشرعية من الوضع السياسي الراهن، وفي اللحظة التي تتراكم فيها الظروف فإن كل الجدران التي بناها المشروع الاستعماري الصهيوني بقصد توفير الحماية له، يمكن أن تنهار كأبراج من ورق، ويندفع الفلسطيني بعزيمة وإيمان لينتزع حريته ولو من ثقب حفرة صغيرة في الأرض أو فجوة صغيرة في الجدار..

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)