قضايا وآراء

دروس أفغانية للثورة السورية

أحمد موفق زيدان
1300x600
1300x600

يحرص العقلاء الذين أخذوا على عاتقهم هموم أمتهم وشعبهم وقضاياهم، على التعلم من دروس الآخرين، فلا شيء أهم وأفضل من توفير الدماء من السير في الأرض، وأخذ العبرة من أحداثها وسيرها. ولعل الحدث الأفغاني الطاغي اليوم على كل الأحداث يُشكل ذخيرة، ومعيناً مهماً للثورة السورية، ولغيرها من ثورات الربيع العربي، ولكن نتحدث عن الثورة السورية التي أرغمها النظام ومن خلفه المحتلون الداعمون له على اللجوء للعمل المسلح، مما جعلها تتشابه في جوانبها مع حالة أفغانستان من مقاومة محتلين، وحكومة أتى بها الأخير لفرضها على الشعب الأفغاني.

ونحن هنا نسعى إلى استقراء الحالة الأفغانية، ونقل دروس تجربتها إلى الحالة السورية، وذلك بما يتفق ويتسق مع خصوصية الظروف السورية، وإن كانت بالمحصلة النهائية والعامة فإن الحالة السورية تتشابه مع الحالة الأفغانية باللاعبين الخارجيين والإقليميين والداخليين وطبيعة اللعبة. فثمة لاعبون خارجيون دوليون وثمة لاعبون إقليميون، وهناك لعبة عسكرية تسير على الأرض مع اختلاف طبيعة تلك الأرض التي لا تزال أرضاً قبلية في أفغانستان، ودولة أقرب إلى الدول القبلية منها إلى الدول الحديثة، أما في سوريا، فبعد أن نجح حزب البعث والحكم الطائفي في إضعاف كل ما يتعلق بحواضن وقوالب غيره، أصبح "قائد الدولة والمجتمع في سوريا"! مما جعل مهمة تجميع الناس وتثويرهم ضد النظام شبه مستحيلة.

ويقف على رأس الدروس المستفادة، أنه كما كانت الحركة الطالبانية المستندة إلى قاعدة فلاحية غير مدنية هي من قادت عملية التغيير والتحوّل الأفغاني، وكسبت الانتصار على قوى احتلالية متعددة، فإن الثورة السورية وحالتها العسكرية تعتمد أيضاً على قاعدة ريفية، شكك فيها الرئيس الأمريكي باراك أوباما يوماً ما، ولم يدر أن أغلب حوادث التحول التغييري العالمي عبر التاريخ، أو كلها، كان مستنداً إلى قوى فلاحية بدوية ريفية، كحال البربر في الأندلس، والمغول، والعثمانيين، والفيتكونغ.

 

وقد رأينا القوى المدنية مع كل الاحترام للمدن، وأهميتها في بناء الدول، ولكن نتحدث عن المواجهة المسلحة والصبر عليها والتضحية من أجلها لخلق تغيير وتحول عالمي كبير، رأيناها كما ذكرت أخيراً في هروب الرئيس الأفغاني أشرف غني على أقرب طائرة، وفي جعبته كما قيل 169 مليون دولار، وهو الآتي من جامعات أمريكا، الداعية للشفافية والحكم الرشيد والمحاسبة، وغيرها من الدعوات التي تتناقض مع واقعها، ولذلك فهذا التشابه يؤكد على أن الثورة السورية بحاضنتها الحالية قادرة إن استمرت بالعمل المسلح على تحقيق انتصار، كما حصل في أفغانستان، شريطة توفر شروط عدة، وهو ما ينقلنا إلى الدرس الثاني.

هذا الدرس الذي يعد شرطاً للنتيجة الأولى، يتمثل في ضرورة تلاحم الحاضنة مع الأحزاب والفصائل الثورية السورية، بحيث لا تشعر الحاضنة أن هذه الأحزاب والفصائل مفروضة عليها من فوق، أو أنها سقطت عليها بالمظلات، أو أنها منبتة ومنقطعة عنها، وهو ما استطاعت طالبان التنبه له، فالحركة في جوهرها إنما هي مستندة لقاعدة قبلية، وقادتها ورموزها من الشعب الأفغاني وليسوا مفروضين عليها كحال الأحزاب الحداثوية في العالم العربي، وحتى في أفغانستان كحال الأحزاب الأفغانية خلال فترة الجهاد الأفغاني، ولذا فقد كانت قاعدة طالبان التي استندت عليها يوم تأسيسها هي قاعدة الأحزاب التقليدية مثل أحزاب (محمد نبي محمدي، ويونس خالص) كونهما في الواقع والحقيقة صدى للحاضنة القبلية والعلمائية المشيخية، فشكل من ثم الطرفان العلمائي المشيخي والقبلي جناحي طائر حلّق بهما الطائر الطالباني.

 

ثمة لاعبون خارجيون دوليون وثمة لاعبون إقليميون، وهناك لعبة عسكرية تسير على الأرض مع اختلاف طبيعة تلك الأرض التي لا تزال أرضاً قبلية في أفغانستان، ودولة أقرب إلى الدول القبلية منها إلى الدول الحديثة، أما في سوريا، فبعد أن نجح حزب البعث والحكم الطائفي في إضعاف كل ما يتعلق بحواضن وقوالب غيره، أصبح "قائد الدولة والمجتمع في سوريا"! مما جعل مهمة تجميع الناس وتثويرهم ضد النظام شبه مستحيلة.

 



ولعل الدرس الثالث المهم هنا هو تركيز حركة طالبان على الاحتلال، وضربه بقوة لإرغامه على التفاوض فالانسحاب، مع عدم القبول بتسليمها مقاليدها ومفاتيحها لأي دولة مهما كانت، حتى لباكستان نفسها، التي كانت ذكية بشكل كاف حين تركت حرية الحركة لطالبان، كي لا تمارس الولايات المتحدة الأمريكية والدول المتحالفة معها في الحرب على طالبان ضغوطاً ولا تأثيراً عليها، فاكتفت باكستان بتوفير الملاذ الآمن لقادتها بشكل سري غير معلن، مع حرصها على النفي الدائم والمستمر لوجود أحد من قادة طالبان على أراضيها، وشكلت بالمقابل حالة باكستانية تشترك فيها الحكومة والمعارضة والقوى المثقفة والنخب كلها، لدعم السياسة الباكستانية في أفغانستان، وبشكل خفي دعم طالبان، أو عدم النيل منها، على أساس أنها أمن قومي باكستاني في مواجهة الهند، لتسير على نفس استراتيجيتها أيام الجهاد الأفغاني ضد السوفييت في الثمانينيات، عنوانها تمتين الجبهة الداخلية ورصها لدعم العمل العسكري في الداخل، والنجاح في تحويل حالة القبول السياسي للاجئين الأفغان لحالة شعبية وحزبية عامة.

أما الدرس الرابع فقد حرصت الحركة على ألاّ تلتفت لمن زاحمها على المقاومة، وتركتهم يقاتلون بعيداً عنها، مع السماح لكل القوى المطلوبة دولياً والمغضوب عليها، من القاعدة والحركة الإسلامية التركمانية والجماعات الشيشانية، والبلوش المتمردين على الحكومة الإيرانية، وحتى حركة طالبان باكستان المطلوبة من حليفتها باكستان بالعمل من داخل أفغانستان، وربما لاستخدامهم في صراعها الإقليمي والدولي، ولم تسعَ إلى طردهم أو التضييق عليهم، وإنما اكتفت في اتفاق الدوحة بالتعهد بعدم استخدام أراضيها ضد الدول، وهو ما تعهدت به للروس والإيرانيين والصينيين خلال زيارات وفودها لعواصم هذه الدول.

وهناك الدرس الخامس الذي يخص العلماء والمشايخ في الشام، فقد نجحت طبقة المشايخ والعلماء في أفغانستان وباكستان في دعم طالبان، أو الصمت عليهم، وبالمقابل فإن طالبان اعتمدت عليهم بشكل كبير، مقابل حرص العلماء والمشايخ في كلا البلدين على عدم التدخل في شؤون طالبان وتحركاتها على مدى عشرين عاماً، مع أن لدى بعضهم تحفظاً على بعض مواقف الحركة وأعمالها، ولكن ظل العلماء في البلدين يلتزمون الصمت ويُجمّعون ولا يفرقون، ويُعظّمون الجوامع، ويقلّصون الخلافات والنزاعات، فلم يدخلوا في صراعات حزبية ولا فصائلية، ولا في فتاوى آنية يندمون عليها، وإنما ظلوا فوق السلطة، وفوق أي تجمع سياسي أو حزبي أو فصائلي، يُرجع إليهم في المُلمّات، وفي النوازل الكبيرة، ولذلك نرى فتواهم واحدة يتيمة ربما بدعم طالبان في القتال، مما جعل كلمتهم وفتاواهم محترمة ومقدرة أمام الأفغان نظراً لقلتها وعدم الإكثار منها.

يأتي الدرس السادس والأخير، وهو حرص طالبان على الرفق بحاضنتها، فلم تفرض عليهم إتاوات ترهقهم، ولا ضرائب، ولم تضيق على عيشهم، مما جعلهم يستقبلونها بالأحضان في كل المدن والبلدات التي دخلتها، حيث رأينا أنها فتحت لهم قلبها، مما جعل مقاومة الحكومة لها مستحيلة. 

أما ما يتعلق بتعاملها مع المعارضين والمخالفين فقد رأينا عفوها الكامل عن كل أعضاء الحكومة ومن تعاون معها، ودخلت في حوارات جدية مع المعارضين لتشكيل حكومة لم تشأ الإعلان عنها لوحدها، وهو ما دفع المعارض منهم مثل قلب الدين حكمتيار وغيره للإشادة بها، بل والتعهد بالدفاع عن النظام الإسلامي الجديد ضد البغاة والخارجين عليه. كل هذا حدث بعد أن اقتنع هو وأمثاله أن المشروع لم يعد فصائلياً طالبانياً، وإنما هو مشروع أفغاني لكل الأفغان.

يبقى القول بأن فرض الوقت اليوم على الثورة السورية العمل على تشكيل خلطة حقيقية تنسجم مع ظروفها الخاصة، لإطلاق حرب تحرير شعبية تستهدف الاحتلال بشكل رئيسي، هذه الخلطة تعتمد برأيي على القادة العسكريين الصادقين المحبوبين، ورموز العشائر أو العائلات القوية في كل بلدة وقرية، مدعومة من العلماء والمشايخ، من عليهم أن يلتفتوا لإطلاق سلسلة مدارس على غرار المدارس التي خرّجت جيل طالبان، وهو المنهج الذي اختطه الإمام الغزالي رحمه الله يوم أسس بذلك لجيل صلاح الدين الأيوبي، وبدون هذا أرى أن الحالة السورية ستظل تراوح مكانها وتتقاذفها مصالح الدول، بعيدة كل البعد عن همّ السوريين وعذابات مليون شهيد وربع مليون معتقل و14 مليون مشرد.


التعليقات (0)