قضايا وآراء

جدلية الإيمان والمعجزات

أحمد أبو رتيمة
1300x600
1300x600
بينما يبحث فريق من المسلمين عن المعجزات ويحتفلون بأي قصة غريبة، ظنا منهم أن الخوارق والمعجزات هي الطريقة المثلى لإثبات صحة الدين ودعوة العالمين إلى الإسلام، فإن من اللافت أن القرآن يتجه وجهة أخرى في إثبات قضية الإيمان وصدق رسالة محمد عليه الصلاة والسلام!

على خلاف الأدبيات المسيحية التي تعطي مركزية لكلمة "معجزة" وتتحدث عن قصص كثيرة لشفاء مرضى بالمعجزات وتوظف ذلك في إثبات قضية الإيمان، فإن من اللافت خلو القرآن من كلمة معجزة، و بدلا منها يستعمل القرآن كلمة آية. واللغة القرآنية تساعدنا في فهم مقاصده. فالمعجزة من التعجيز، وهي كلمة تظهر الموقف السلبي للإنسان، بينما الآية تستثير الموقف الإيجابي، فهي دعوة إلى التفكر والتعقل.

كان المكذبون في قريش يسألون الرسول محمداً صلى الله عليه وسلم معجزات للتصديق برسالته:


"وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً * أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً * أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً * أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ ۗ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاّ بَشَراً رَّسُولاً".

لماذا لم يُجب الله تعالى مطالب قريش، ونحن نعلم أن الله لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء؟

القرآن يجيب: "إن نشأ ننزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين".

المعجزة تحقق حالة إبهار لمن يراها، لكن ليس هذا هو جوهر الإيمان الذي يحبه الله تعالى، إن الله تعالى يحب أن يكون الإيمان ثمرة تجربة ومعاناة وبحث ومجاهدة وتسام في معراج تصفية السريرة وتخلية النفس من أثقال الطين.

وقيمة الإيمان تأتي من كونه إيماناً بالغيب، فلو كانت مسائله بارزة أمامنا مثل بروز الجبال، فأي فضل يبقى للمؤمن؟! وكيف سنعرف الفرق بين أبي بكر وأبي جهل؟! كان كلاهما يصدق بوجود الجبال لأنها من جنس الطبيعة المادية الكثيفة، أما التمايز فهو يحدث في عالم اللطائف، حيث المعاني التي يراها الناس ببصائرهم لا بأبصارهم، تلك البصائر لا تشف إلا بالمجاهدة والتجرد للحق ومخالفة الهوى.

في الحياة ما يكفي من أدلة على الإيمان: "وكم من آية في السماوات والأرض.."، لذلك فإنه لا ينقص الناس مزيد من الأدلة ليعلموا، بل ينقصهم تفتيح أسماعهم وأبصارهم وقلوبهم، فيروا من المشاهدات ما تطمئن به القلوب ويزول به أي ريب.

حقائق الإيمان لا تحجب عن الناس بسبب نقص الأدلة بل بسبب حجب نفوسهم:

"وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِىٓ أَكِنَّةٍۢ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ وَفِىٓ ءَاذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنۢ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ".

"كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون".

لذلك يكرر القرآن كثيراً تناول مرض انسداد منافذ الفهم في المكذبين، فهم صم بكم عُمي لا يعقلون:

"ومنهم من يستمعون إليك أفأنت تسمع الصم ولو كانوا لا يعقلون ومنهم من ينظر إليك أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون".

"وَمَآ أَنتَ بِهَٰدِى ٱلْعُمْىِ عَن ضَلَٰلَتِهِمْ ۖ إِن تُسْمِعُ إِلا مَن يُؤْمِنُ بِـَٔايَٰتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ".

"إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ".

لا يقدر أصحاب الحجب الكثيفة على تصور معاني العمى والصمم والضلال التي يذكرها القرآن، فهم يرون الأشياء المادية ويسمعون الأصوات المادية، فلا يتصورون غيرها ويسخرون من الذين آمنوا، لكن الذين ارتقوا في معارج المجاهدة وانفتحت طاقة من النور في قلوبهم يلامسون حقائق الإيمان، حتى إنهم يعجبون من الذين لا يرون هذه الحقائق ولا يشعرون بمعية الله في حياتهم!

والأمر لا يتعلق هنا بالمعرفة بل بالتجربة الداخلية، فلو كانت قضية معرفة ذهنية لأبصر المكذبون ما أبصره المؤمنون، لكن اثنين يعيشان نفس ظروف الحياة المادية ويشاهدان حدثا واحدا؛ فيقول الأول من أعماق قلبه سبحان ربي العظيم، بينما يمضي الثاني وهو يقول لا أرى شيئا: "ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون".

لماذا ينبغي أن نبحث عن معجزات خارقة للطبيعة، بينما الطبيعة ذاتها مدهشة تدعو في كل أرجائها إلى الإيمان بالله!

إن الطبيعة ذاتها أشد إعجازا من أي معجزة يتخيلها البشر، لكن طول الإلف يطفئ الدهشة ويقسي القلب: "طال عليهم الأمد فقست قلوبهم".

لذلك لم تكن رسالة القرآن أن يخرق الطبيعة، بل أن يحرك القلوب ويحييها لتعيد اكتشاف آيات الله الحاضرة فعلاً في كل جنبات الوجود، لكن الناس عنها غافلون ومعرضون بسبب حجاب الإلف والتعود.

يستدعي القرآن أشد الظواهر الطبيعية اعتيادا لدى الناس في استثارة دوافع الإيمان في نفوسهم، مثل الرياح اللواقح ونزول الغيث، والليل اللباس والنهار المعاش، والخلق من نطفة وجعل الناس زوجين وتشكل الجنين في الأرحام، ودورة الحياة من ضعف إلى قوة إلى ضعف وشيبة، واختلاف الألسن والألوان وركوب البحر، والشمس والقمر، ونحو ذلك من مئات الآيات!

يصف الناس الأشياء التي يرونها كل يوم بأنها أشياء عادية! وهم يقصدون بكلمة "عادي" التقليل منها وتفريغها من عنصر الدهشة والاستثارة، لكن القلب الحي يرى كل ما في الوجود متجددا باعثا على الدهشة، فكلمة عادي هي كلمة حمقاء لأنها تنكر عظمة الأشياء ليس لأي سبب سوى استمرارها!

نحن نصف طلوع الشمس بأنه عادي لأنه يتكرر كل يوم، لكن دعونا نتخيل أن الشمس لم تطلع ذات يوم! نصف اتزان الأرض بأنه عادي، لكن ماذا لو مادت الأرض؟ نصف صحة أجسادنا وعافيتها بأنها عادية، لكن ماذا لو هاجمنا المرض؟! حينها سندرك عظمة النعمة التي كنا عنها غافلين..

لا يوجد شيء "عادي" في الكون، كل ما في الحياة عظيم ومدهش ودال على الله تعالى، ومشكلة عدم الإيمان تتعلق بتبلد الشعور وليس بضعف الدليل.

الذين يطالبون بالمعجزة هم الذين تبلد تفاعلهم في الحياة وغشيت أبصارهم بالحجب الكثيفة، هذه الحالة من التبلد وانطفاء البصيرة لا يصلحها حتى المعجزة "وإن يروا كل آية لا يؤمنوا"، لأن المعجزة حالة انبهار مؤقت وهي لا تلغي إرادة التكذيب والعناد إن وجدت، وغياب المعجزة لا يلغي إرادة الإيمان إن وجدت.

لذلك قال القرآن: "وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون".

لقد رأى فرعون تسع آيات بينات ثم رأى انشقاق البحر لموسى أمامه، فلم يتعظ من ذلك وما زاده إلا طغيانا وكفورا.

هذا هو العمى الذي يقصده القرآن، وهو معنى أعمق من عمى العين، إذ ما نفع أن تكون العينان مفتوحتين بينما صاحبهما في حيرة وضلال، لا يتعظ بكل النذر والآيات حتى يهلك:

"فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور".

"وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون".

من تمام تكريم الله للإنسان أن يعطيه فرصة النجاح في اختبار الإيمان دون أن يظهر له المعجزات، ومثل ذلك كمثل الطالب النجيب والطالب البليد، فإن النجيب تكفيه إشارة لطيفة من معلمه ليفقه المعنى بينما البليد يقول: "ما نفقه كثيراً مما تقول"، والمعلم يحب الذي يلتقط الإشارة وليس البليد، فكلما خفيت الإشارة وتوارت كلما أظهر خفاؤها فضل من فهمها.

لذلك كرم الله تعالى أمة محمد صلى الله عليه وسلم بأن كانت آية رسولهم هي القرآن: "أو لم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم"، بينما كانت آيات الرسل السابقين معجزات حسية. ويفسر المفكر السوري جودت سعيد ذلك بأن الأمم السابقة كانت تعيش طفولة فكرية، بينما كانت بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إيذاناً ببدء عصر العلم. وآية القرآن خير من المعجزات الحسية، لأن المعجزة الحسية لا تتعلق بجنس الدعوى التي جاء بها الرسل. إذ لا علاقة عضوية بين أن تنقلب العصا إلى حية وبين أن موسى رسول من عند الله، لكن هذه المعجزة معزز خارجي يراعي الطفولة الفكرية للناس في ذلك الزمان.

أما القرآن فإنه موجه إلى العقل وهو من جنس دعوى الرسالة، فهو يقيم الحجة بذاته ولا يلجأ إلى معزز خارجي خارق لقوانين الطبيعة.

إن الآية التي يتضمنها القرآن متجددة مستمرة، إذ تمكن محاججة أي إنسان في أي زمان ومكان بمعاني هذا الكتاب، بينما المعجزة الحسية استثناء مؤقت الفاعلية، لأن الحياة تقوم على القوانين وليس على خرقها، والناس في عصر البحث العلمي يحتاجون إلى من يقنعهم من داخل دائرة السنن التي يفقهونها، وهذا ما يفعله القرآن من خلال الأدلة العقلية التي يقدمها.

كما قلت، فإن من تمام تكريم الإنسان أن يخوض تجربته الإيمانية دون الحاجة إلى معجزات خارقة للطبيعة، وهنا خلل شائع في قراءة قصص الرسل وسيرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم تحديداً، وهو تصوير حياته كما لو أنها معجزات متواصلة، وهذا ما يقود إلى استدلال فاسد حين يطالب الناس بالتأسي بالرسول فيجيبون: ذلك كان رسولاً يوحى إليه ويرى الملائكة والمعجزات! وكأن هذا الفهم يعني ضمنياً أنه لا فضل للرسول وأصحابه في الإيمان والتقوى لأن حياتهم كانت سلسلة متواصلة من المعجزات، وهذا ما يفقد دافع التأسي لأننا اليوم لا نرى ما كانوا يرونه من معجزات وكرامات..

تصوير حياة الرسول بأنها معجزات متواصلة هو تصوير اختزالي يسقط قيمة التجربة الذاتية والمجاهدة والصبر الذي كان الرسول محمد إمامه، وليس صحيحاً أن الوحي كان يتنزل دائماً، فهناك مواطن كثيرة كان الرسول يظهر فيها حائرا أو يتركه الله تعالى ليُتم تجربته الإنسانية حتى النهاية، مثل رحلة الهجرة والاختباء في غار ثور والتخفي عن أعين قريش، ومثل غزوة الخندق وحفره خوفا من غزو الأحزاب المدينة، ومثل حادثة الإفك التي ظل الرسول فيها حائرا شهراً دون أن يتنزل عليه الوحي، ولم يكن صلى الله عليه وسلم يدري ماذا يفعل مع من آذاه في أهل بيته.

وفي قصة إبراهيم عليه السلام لم يكن الأمر بذبح ابنه أكثر من إشارة خفية في المنام، فلم يكن أمرا صريحاً وهذا ما عظم البلاء "إن هذا لهو البلاء المبين"..

حتى الرسل خاضوا تجارب الإيمان كاملة ولم تكن المعجزات تجري على أيديهم بالاستدعاء الآلي وقتما رغبوا في ذلك، ومن هنا علم الله صدقهم ومجاهدتهم، فمن يعيش المعجزة دون عناء أي فضل له؟

قيل في التصوف: الكرامات للمبتدئين والمحبة المجردة للباقين.

إن المبتدئ في طريق التصوف يهتم بالبحث عن الكرامات والمشاهدات ورؤية الأنوار، لكن الراسخ في طريق المجاهدة يرى تلك الأشياء طفولية لا يعبأ بها، وإن حدثت فهي ابتلاء من الله ليختبره هل يتعلق قلبه بالكرامة فيتوقف عن المسير أم يتعلق قلبه بالله تعالى! لذلك قال من فقه حقيقة التصوف: "أعظم كرامة هي الاستقامة".

إن المؤشر الحقيقي لحب الله تعالى للمؤمن ليس أن يسمع تسبيح العصافير أو يطير إلى بلاد بعيدة، بل أن يهديه إلى الخير والاستقامة ويفتح له أبواب التيسير..

حين تنزلت الملائكة في غزوة بدر قال الله تعالى: "وما جعله الله إلا بشرى لكم وما النصر إلا من عند الله" حتى لا تتعلق قلوب المؤمنين بالملائكة، وأن تظل خالصة لله تعالى وحده.

يقول العارفون بالله إن من يسير في طريق المجاهدة والتصفية تفيض من قلبه الأنوار ويفتح الله عليه الفتوحات ويريه الكرامات، لكنها جوائز قد يعطيها الله تعالى في طريق المجاهدة لتطمئن قلوبهم بالثبات وليست ألعابا طفولية يسألها الناس للتسلية..

"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وان الله لمع المحسنين".

twitter.com/aburtema
التعليقات (0)