مقالات مختارة

عودة إلى حرب النيل

عبد الحليم قنديل
1300x600
1300x600

قبل نحو أربعة شهور، كتبت في هذا المكان نفسه مقالا بعنوان “حرب على النيل”، نشر بتاريخ 27 آذار/مارس 2021، وكان مقتضاه أن ساعة الصفر اقتربت في حرب النيل، وأن دور القوة الخشنة يبدو بلا بديل منظور، وربما الجديد، أن حماقة إثيوبيا ـ كما “جهيزة” في التراث العربي ـ قطعت قول كل خطيب، وأغلقت بالضبة والمفتاح كل طريق تبقى للتفاوض أو الدبلوماسية، وأخطرت مصر والسودان ببدء الملء الثاني للسد الإثيوبي، وعلى نحو متعجرف، وبغير سابق اتفاق ملزم وشامل طلبته القاهرة والخرطوم، وهو ما جعل قصة اللجوء لمجلس الأمن الدولي في باب النوافل التي لا تلزم، وأيا ما كانت صيغة قرار الاجتماع الدولي، فهي لا تفيد بشيء عند القاهرة بالذات، اللهم إلا من باب الإشهاد الأخير، وإشهار ساعة الصفر الحربي.


نعم، قضي الأمر الذي فيه تستفتيان، وصارت ساعة الصفر وشيكة، والباقي تفاصيل، وتعلمها القيادة المكلفة، بخططها وبدائلها المعدة من وقت، فلم يعد للقاهرة، سوى أن تخرج السد الإثيوبي من الخدمة، وأن تقوض الخطر الإثيوبي بكامله، وحتى لا تفوت سابقة في أعالي النيل، تغري آخرين بتكرار المقامرة الإثيوبية، فمصر ليس لديها موانع في إقامة سدود معقولة الحجم في دول منابع النيل، وتعاونت ببناء سدود وخزانات في أوغندا وتنزانيا والكونغو وجنوب السودان، تفيد في توليد الكهرباء من الطاقة المائية، وساعدت السودان من قبل في بناء سد جبل الأولياء وغيره، فمن حق كل الدول المشاطئة للنيل، أن تستفيد من فرصه، ومن تنمية موارده، ولكن بشرط حاسم عند مصر دولة المصب الأخير، هو ألا تعوق المشروعات جريان أطول أنهار الدنيا، وألا يمس أحد نقطة مياه واحدة من حصة القاهرة التاريخية، وهو ما خرج السد الإثيوبي عن نصه المحكم، المؤكد باتفاقات توالت منذ نهايات القرن التاسع عشر، ربما كان أشهرها اتفاقية 1902، التي عقدها الاحتلال البريطاني نيابة عن مصر والسودان، وكان طرفها الآخر مينليك الثاني، امبراطور إثيوبيا المستقلة وقتها، وكسبت بها مصر والسودان “حق الفيتو” والإذن المسبق لأي إنشاءات على منابع النيل الأزرق بالذات، وكان الثمن الذي تلقته إثيوبيا وقتها باهظا، أكداس من الذهب لامبراطور الأحباش، وفوقها اقتطاع منطقة “بني شنقول” من السودان.


وإذا كانت إثيوبيا تتحلل اليوم من اتفاقية 1902، وبدعوى أنها مع غيرها من اتفاقات لحقت في عشرينيات القرن العشرين معاهدات استعمارية، رغم أن ميثاق “الاتحاد الأفريقي” و”منظمة الوحدة الأفريقية” من قبله، يقر بكل اتفاقات العهد الاستعماري درءا للنزاعات، وإذا أحبت أديس أبابا أن تطيح بالثوابت، فلا بأس، وعليها إذن أن ترد للسودان مقاطعة بني شنقول، المقتطعة تاريخيا من لحم السودان، وهي المنطقة المقام فيها السد الإثيوبي موضوع النزاع، وعلى مسافة 15 كيلومترا لا غير من حدود السودان المتقلصة، وهو ما يعني انتقال ملكية السد نفسه، فوق التحكم بإدارته وخزانه وتشغيله إلى الخرطوم، وهو ما لن تقبله إثيوبيا طوعا بطبائع المطامع، لكن قد يفرض عليها كرها، وهي الدولة المعرضة فعليا لتفكيك متزايد، تتواتر أماراته، بعد ما جرى في “حرب تيغراي”، والإذلال الشامل لجيش “آبي أحمد” رئيس الوزراء المهزوز، الذي يتصور أن التعنت المتعجرف في قضية سد النهضة، قد ينقذه ودولته من المصائر المحتومة، التي تبدو فيها إثيوبيا كأنها يوغسلافيا إفريقية، مرشحة لانشطارات لانهائية، فلا منطق ولا عدالة في بقاء إثيوبيا كسجن مفتوح للقوميات والأعراق، ولتحكم عرقية “الأمهرة” الحبشية، التي لا تجاوز خمس سكان إثيوبيا الراهنة، بينما حركات التحرير القومي والتمرد العرقي تتدافع، وتنتشر كالنار في هشيم المظالم التاريخية.


ومن حق مصر أن تفعل ما تراه حفظا لمصالحها ووجودها، فالنيل عند المصريين قضية وجود، وليس مجرد قضية أمن قومي، وفي القضايا الكبرى عند الشعوب الحية، فلا فرق بين مؤيد ومعارض، وأيا كان النظام الذي يحكم، فلا يملك حاكم مصري، أيا ما كان اسمه ورسمه، ترف أو نزق التفريط في مياه النيل، فقضية النيل هي قضية الكيان المصري لا النظام المصري، ومصر تعيش في فقر مائي منذ ثلاثة عقود، وتحتاج اليوم إلى 120 مليار متر مكعب سنويا من المياه العذبة، وتعتمد بنسبة تفوق التسعين في المئة على حصتها من مياه النيل، البالغة 55.5 مليار متر مكعب سنويا، بحسب اتفاق 1959 مع السودان، مع الشروع في بناء السد العالي، ولم تكن إثيوبيا طرفا فيه بالبداهة، ولسبب ظاهر، هو أن تقسيم حصص مصر والسودان، مرتبط لزوما بإيراد النيل بعد دخوله بالانحدار الطبيعي إلى داخل السودان، بينما إثيوبيا تتلقى سنويا نحو ألف مليار متر مكعب سنويا من أمطار الهضبة الحبشية، ولديها عشرات الأنهار، لا تفيد بها في غير إقامة سدود احتجاز، وفرت لها نحو ستين ألف ميغاوات كهرباء، لم تنقذ نصف شعوب وأعراق إثيوبيا من ظلام وبؤس شامل، في ما يدعي أبي أحمد أن “سد النهضة” قد يوفر نحو ستة آلاف ميغاوات كهرباء، مقابل حجز ما قد يصل إلى 74 مليار متر مكعب مياه، إضافة لخطط بناء سدود أخرى في المنطقة ذاتها، وهو ما قد يبتلع نصيب مصر والسودان معا، ويفضح حقيقة الادعاء الكهربائي، ويفصح عن الهدف العدواني الذي لا هدف منظور غيره، وهو وضع مصر والسودان تحت حد السكين المائي، ووضع محبس على النيل في يد حكام إثيوبيا، أراده من هم وراء إثيوبيا الجدد والقدامى من عقود، ومنذ خططت أمريكا لبناء أربعة سدود إثيوبية على مجرى النيل الأزرق، وقدمت تصميماتها للسلطة الإثيوبية بين عامى 1956 و1964، وبهدف خنق مصر عبد الناصر وقتها، وهو ما لم يكن واردا تنفيذه، بسبب الوزن الهائل وقتها لمصر عبد الناصر في تقرير المصائر الإفريقية، وهو ما استمر مندفعا بحركة القصور الذاتي حتى أوائل التسعينيات، حين حاول الرئيس المخلوع مبارك تجديد التزام إثيوبيا باتفاقية 1902، ووقع اتفاقا بالخصوص مع رئيس الوزراء الإثيوبي الأسبق ميليس زيناوي، تملص منه الأخير في سنوات لحقت، بدعوى أنه وقع على الاتفاق في لحظة ضعف بلاده، وأن إثيوبيا بزعمه صارت قوية، بينما الحقيقة أن تراجع وإضعاف دور مصر أفريقيّا، هو الذي ضاعف إحساس أديس أبابا بالقوة المتوهمة، خصوصا بعد قطيعة مبارك لأفريقيا كلها، بعد محاولة اغتياله بأديس أبابا أواسط التسعينيات، وهو ما أغرى حكام إثيوبيا بتحريض دول المنابع على مصر، وبما انتهى إلى توقيع “اتفاق عنتيبي” في أيار/مايو 2010، أي قبل أن ينخلع مبارك بثورة 25 يناير 2011، وما أعقبها من اضطراب أمني، قد يكون أدى دورا في حفز إثيوبيا لوضع حجر أساس السد في آذار/ مارس 2011، لكن السبب المنشئ للمأساة كان أسبق، فقد نص “اتفاق عنتيبي” على إسقاط الاعتراف بالحقوق التاريخية المكتسبة لمصر والسودان، اللتين اكتفتا وقتها وإلى اليوم، بالامتناع عن التوقيع، ولم تصادق إثيوبيا على “اتفاق عنتيبي” برلمانيّا إلا في أوائل 2013، ولم تشرع فعليا في بناء السد إلا في وقت حكم الرئيس الإخواني، الذى اكتفى بأداء كاريكاتيري في اجتماع الفضيحة المشهور المذاع على الهواء، ثم جرى عزل حكم الإخوان بثورة 30 يونيو 2013، ولم يبدأ الانتباه إلى خطر السد الإثيوبي، إلا بتوقيع “إعلان المبادئ” في آذار/مارس 2015، وهو نص حمال وجوه، لا يفيد في ضمان حق أكيد، جرت بعده جولات المفاوضات العبثية الماراثونية إياها، من نوع وساطات واشنطن والاتحاد الأفريقي، التي أضاعت وقتا ثمينا، وانتهت بنا إلى اللحظة الفارقة، حيث لم تعد تجدي مفاوضات ولا وساطات من أي نوع، بعد عشر سنوات من ترداد كلام أجوف، فالحق الذي لا تسنده القوة ضائع باليقين، وقد آن للدبلوماسية المصرية، التي بذلت جهدا عظيما مقدرا مكثفا في وقت متأخر، أن تستريح وتأخذ جانبا، وأن تترك المهمة بكاملها لمؤسسات النخاع العظمي للدولة المصرية، في الجيش وما حوله، التي لن تقبل هوانا ولا تفريطا في قضية الوجود المصري الأولى، وإلا كان باطن الأرض خير لها من ظاهرها، على حد التعبير الموحي لمتحدث عسكري في مراسم افتتاح قاعدة “جرجوب” البحرية العسكرية قبل أيام، وتابع المتحدث: “إذا فرض علينا القتال دفاعا عن حقوقنا ومكتسبات شعبنا، فنحن أهله”، وإنا لمنتظرون.

 

القدس العربي


2
التعليقات (2)
فيصل الشيباني ليبيا
السبت، 10-07-2021 10:51 م
تكتب في كلام حتى الدجاج ماينقبه!
ابوعمر
السبت، 10-07-2021 09:00 ص
...حرب ايه اللي أنت جاي تقول عليه....الحرب يخوضها الرجال..لا الحريم...الحريم تخوض حرب الكفتة والخضروات وهو حال الجيشة المصرية.منذ1952...الى ..............الله اعلم..