آراء ثقافية

هَيْضَةُ الملائكة

صاحبة قصيدة الكوليرا نازك الملائكة- تويتر
صاحبة قصيدة الكوليرا نازك الملائكة- تويتر

أستعيد، في عزلتي الإجبارية، التي أمست، منذ أيام، عزلتين، لحظة فارقة في مسار تطور الشعر العربي، وهي قصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة، التي كتبتها تأثرا بتداعيات الوباء الذي ضرب مصر في صيف العام 1947، وقد اكتسبت (القصيدة) أهميتها المطلقة ليس باعتبارها قصيدة عن المرض لكن حصرا من الجدل غير المحسوم حتى الآن حول من هو الرائد في إشعال شرارة "الشعر الحر"؟


ترتكز الملائكة في دفوعها المتعلقة بريادتها في مواجهة زميلها بدر شاكر السياب على أسبقية النشر، فتذكر أن "الكوليرا" نشرت في عدد كانون الأول/ ديسمبر 1947 من مجلة "العروبة" الأسبوعية، التي كانت تصدر في بيروت، وفي النصف الثاني من الشهر نفسه صدر في بغداد ديوان بدر شاكر السياب "أزهار ذابلة" وفيه قصيدة حرة الوزن له من بحر الرمل عنوانها "هل كان حبا" وقد علق عليها في الحاشية بأنها من "الشعر المختلف الأوزان والقوافي".


وتحدد الملائكة باليوم واقعة ميلاد القصيدة وريادتها للدعوة للشعر الحر: "كانت أول قصيدة حرة الوزن تنشر قصيدتي المعنونة "الكوليرا"، وهي من الوزن المتدارك (الخبب)، نظمتها يوم 27 تشرين الأول/ أكتوبر 1947، وكنت كتبت تلك القصيدة أصور بها مشاعري نحو مصر الشقيقة خلال وباء الكوليرا الذي داهمها. وقد حاولت فيها التعبير عن وقع أرجل الخيل التي تجر عربات الموتى من ضحايا الوباء في ريف مصر. وقد ساقتني ضرورة التعبير إلى اكتشاف الشعر الحر".


تاريخ "ميلاد" القصيدة وانقسام الرأي حولها يحمل مفارقة لافتة للغاية، ففي ذات اليوم نشرت مجلة "الرسالة" الأسبوعية، التى تصدر في القاهرة، عدة أخبار عن "الكوليرا وتداعياته،  وفي زاويتها "الأدب والفن في أسبوع"، ومتابعات لأجواء الاحتفال بذكرى أحمد شوقي 14 تشرين أول/ أكتوبر (1868- 1932)، من بينها خبر حمل هذا العنوان: "وصف شوقي للكوليرا"، جاء فيه: "اِفتَنَّت صحفنا في الاحتفاء بذكرى شوقي، حتى أن إحداها، وهي مجلة الصباح، أتت بأبيات في وصف وباء الكوليرا الذي كان بمصر سنة 1902 من قصيدة لشوقي يهنئ فيها الخديوي عباس بعودته من الخارج ويصف ذلك الوباء"، ومما جاء في قصيدة شوقي، هذه الأبيات المتصلة مباشرة بالمرض وغوائله:


لهفى على مهج غوال غالها/ خافي الدبيب محجب الأظفار 
خمسون ألفاً في المدائن صادهم/ شرك الردى في ليلة ونهار


وقد ظل عالقا بأذهان الكثير من قراء ذلك الوقت البيت الذي يحمل بعض فلسفة شوقي في مواجهة النازلة، في مواجهة الحياة بصورة أشمل، وفيه يشير إلى المكان الذي بدأ منه تفشي الوباء (قبل الأخير):


فالموت عند ظلال (موشا) رائع/ كالموت في ظل القنا الخطار


وقائع "موشا" يجدها القارئ في كتاب "حياة طبيب" للدكتور نجيب محفوظ، والذي يسرد فيه ذكريات حياته الشخصية والعملية، ففي الفصل المعنون: "شهور الكوليرا" يذكر بداية الوباء في مستهل صيف ذاك العام الذي تفشى فيه الوباء بين الحجاج في مكة، ونقله إلى مصر عمدة قرية "موشا"- على مقربة من محافظة أسيوط بصعيد مصر- العائد من الحج، ومن "موشا" انتقل الوباء إلى أماكن أخرى: ديروط، حلوان، الإسكندرية، حيث تتبعها الطبيب معالجا، ومتذكرا لها في كتابه الآخاذ.


هل تلك المصادفة عقيمة؟، هل قرأت الملائكة زاوية الاحتفال بشوقي هذه في "الرسالة"، أو في "الصباح"؟، هل تأثرت بأبياته "القديمة" المستعادة عن الوباء العائد في زيارة جديدة لم يك مداه قد تجلى بعد؟، وهل رافق ذلك التأثر المفترض تأثر أخرى بقصيدة المتنبي "الحمى" كما يتخيل البعض؟


هذه الأسئلة، وغيرها، يستعاد الآن بهدوء، مع معاودة النظر إلى بعض المحطات الرئيسية في تحولات الملائكة الشعرية والفكرية.


في تقديمها لديوانها الثاني "شظايا ورماد"؛ الذي يمثل بالنسبة لعدد من النقاد "بيان الحداثة الشعرية العربية"، تشير إلى ريادتها عبر قصيدتها؛ قبل عامين، وأنها ترى و"قد يرى كثيرون معي أن الشعر العربي، لم يقف بعد على قدميه، بعد الرقدة الطويلة التي جثمت على صدره طيلة القرون المنصرمة الماضية. فنحن عموما ما زلنا أسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام. ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة".


قفزة الملائكة تلك بدت لها بعد عشرين عاما كحركة في موجة لا تمثل إلا موقفا مرتبطا بملابسات تطورها الشعري والفكري، وفيما آشبه بالنكوص- نحيت كلمة "ردة" لدلالاتها الملتبسة- تشدد الملائكة في ديوانها "شجرة القمر" (1967) على أنها: "على يقين من أن تيار الشعر الحر سيتوقف في يوم غير بعيد وسيرجع الشعراء إلى الأوزان الشطرية بعد أن خاضوا في الخروج عليها والاستهامة بها. وليس معنى هذا أن الشعر الحر سيموت وإنما سيبقى قائما يستعمله الشاعر لبعض أغراضه ومقاصده دون أن يتعصب له ويترك الأوزان العربية الجميلة".


عشرون عاما بين الحماسة المفرطة للتجديد في الإطار والمعاني والانشغالات إلى الرجوع إلى خنادق "التراث والأصول"، بين الاحالات المتكررة إلى مصادر فكرية وشعرية ونقدية وجمالية "غربية" والعودة إلى "التراث النقدي والجمالي الموروث"، في مقدمة "شظايا ورماد" تذكر أنه "في الشعر، كما في الحياة، يصح تطبيق عبارة برنارد شو: "اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية"، لسبب هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها، ولا نماذج معينة للألوان التي تتلون بها أشياؤها وأحاسيسها"، وفي تقديمها لديوان "مأساة الحياة وأغنية للإنسان" تشرح الظروف الزمنية والنفسية والفكرية التي أحاطت بها خلال عشرين عاما من 1945 إلى 1965، في تلك السنوات الباكرة كانت "تكثر من قراءة الشعر الإنكليزي"، وكانت مشاعرها وذائقتها الشعرية ملقاة في فضاء "تشاؤمي مطلق وشعور بأن الحياة كلها ألم وإبهام وتعقيد"، وأن فلسفتها في ذلك الوقت كانت متأثرة بكلمات الفيلسوف الألماني (المتشائم) "شوبنهاور": لست أدري لماذا نرفع الستار عن حياة جديدة كلما أسدل على هزيمة وموت. لست أدري لماذا نخدع أنفسنا بهذه الزوبعة التي تثور حول لا شيء؟ حتّام نثبر على هذا الألم الذي لا ينتهي؟ متى نتذرع بالشجاعة الكافية فنعترف بأن حب الحياة أكذوبة وأن أعظم نعيم للناس جميعا هو الموت؟"، بل كانت تعتبر أن تشاؤمها في الواقع قد فاق تشاؤم شوبنهاور نفسه، "لأنه- كما يبدو- كان يعتقد أن الموت نعيم لأنه يختم عذاب الإنسان. ان أنا فلم تكن عندي كارثة أقسى من الموت. كان الموت يلوح لي مأساة الحياة الكبرى، وذلك هو الشعور الذي حملته من أقصى أقاصي صباي إلى سن متأخرة".


في هذه الأجواء النفسية جاءت قصيدة الكوليرا، تذكر الملائكة الاسم في العنوان وفي المتن، كما تذكر لفظ "الهيْضة"، الذي يعرفه المعجم الوسيط بأنه: الهَيْضَةُ مرضٌ من أَعراضه القيءُ الشديدُ والإِسهالُ والهُزال [الكولرا]، تبدأ من الليل:


سكَن الليلُ
أصغِ إلى وَقْع صَدَى الأنَّاتْ
في عُمْق الظلمةِ، تحتَ الصمتِ، على الأمواتْ
صَرخَاتٌ تعلو، تضطربُ
حزنٌ يتدفقُ، يلتهبُ
يتعثَّر فيه صَدى الآهاتْ

 

وتختم:


يا شبَحَ الهيْضة ما أبقيتْ
لا شيءَ سوى أحزانِ الموتْ
الموتُ، الموتُ، الموتْ
يا مصرُ شعوري مزَّقَهُ ما فعلَ الموتْ


وفيما يعتبر نقيضا تاما لهذه الأجواء النفسية والجمالية والفلسفية، تطرح الملائكة في قصيدتها "دعوة إلى الحياة"؛ من ديوانها الثالث "قرارة الموجة" (1957) رؤية تبدو مغرقة في التفاؤل، وهي تنهي القصيدة بهذه الكلمات الدالة:


فاغضب على الموت اللعين/ إني مللت الميتين

 

 
التعليقات (0)