هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
كشفت وثائق بريطانية سرية للغاية، عن تفاصيل أضخم مشروع في تاريخ مصر لإنتاج سلاحها محليا بعد هزيمة الجيش المصري، وجيوش دول عربية أخرى، في حربهم مع إسرائيل الوليدة عام 1948.
ونشرت "بي بي سي" تفاصيل مشروع السلاح المصري وأسباب فشله، بالتزامن مع الذكرى الثالثة والسبعين لبدايتها في 15 آيار/مايو، مؤكدة أنها اطلعت على وثائق بريطانية سرية للغاية حول هذا المشروع.
ووفقا للوثائق، فإن مشروع وزارة الحربية المصرية الضخم غير المسبوق شمل إنشاء مصانع لإنتاج الطائرات المقاتلة والذخيرة والأسلحة الصغيرة، وشراء عدد ضخم من الطائرات والمعدات وقطع الغيار لتحديث السلاح الجوي الملكي المصري.
وترجع أهمية الوثائق إلى أنها تلقي بعض الضوء على آثار نتائج هزيمة الدول العربية في الحرب أمام الإسرائيليين، التي بدأت بعد يوم واحد من إعلان قيام دولتهم، وكانت أحد أسباب ثورة 23 يوليو/تموز عام 1952 في مصر.
وجاء مشروع التسليح المصري بعد أقل من ثلاثة شهور من انتهاء الحرب في فلسطين التي دخلها الجيش المصري بأسلحة باهظة الثمن غير مطابقة لمواصفات الجودة.
كانت مصر، في عهد الملك فاروق، قد دخلت حرب 48 بعد يومين فقط من موافقة برلمانها على المشاركة فيها، وقبل التأكد من توفر القدرات التسليحية اللازمة.
وفي 13 أيار/مايو شكلت الحكومة لجنة لتوفير احتياجات الجيش من الأسلحة بأسرع وقت ومن كل المصادر. ومُنحت اللجنة صلاحيات هائلة دون رقابة ملائمة لتوفير الأسلحة بأي طريقة في ظل قرار مجلس الأمن الدولي بحظر بيع الأسلحة للدول العربية وإسرائيل.
وشاب هذه الصفقات فساد لم يُكشف عنه إلا في عام 1950، فيما يعرف في تاريخ مصر الحديث باسم "فضيحة الأسلحة الفاسدة".
وكانت الفضيحة، التي كشفتها الهزيمة العسكرية، أحد أسباب الثورة التي بدأها الجيش المصري في 23 تموز/يوليو عام 1952 وغيرت نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري.
مصر قررت في شهر يوليو 1949 إنشاء مصنع محلي لتصنيع الطائرات
بدت الجهات البريطانية المختصة مترددة في الاستجابة للمطالب المصرية
وأوضحت أن المصنع "لن يبدأ بالطبع الإنتاج إلا بعد بضع سنوات، ولهذا فإنه من المقترح دراسة الموضوع بعيدا تماما عن الحظر".
وبررت إصرارها على هذا الطلب بأن "ممثلي الدول الأخرى موجودون في الميدان (في مصر)". وأضافت أن الشركة التي ستفوز بعقد إدارة المصنع الجديد "سيكون لها بالطبع تأثير حاسم في تجهيز السلاح الجوي المصري الملكي لفترة ما قادمة".
في الوقت نفسه، طلبت مصر من الشركة البريطانية تقديم عرض أسعار لبيع 60 طائرة مقاتلة من طراز فيوري لتسليح ثلاثة أسراب جوية مصرية.
وتزامن إعلان مصر عن مشروعها مع تقارير دولية تحذر من أن حجم الأسلحة لدى إسرائيل وجيرانها سوف يبلغ بنهاية عام 1949 حوالي 20 ضعفا ويتجاوز فعالية هذه الأسلحة أضعافا كثيرة مقارنة بالوضع في بداية الحرب.
وتحدثت التقارير نفسها، التي راجت مع انعقاد لجنة الأمم المتحدة للتوفيق في فلسطين بمدينة لوزان السويسرية، عن أن مصر تنفق 60 مليون جنيه استرليني على تطوير الجيش وشراء أسلحة من إيطاليا.
وبينما بدت الجهات البريطانية المختصة مترددة في الاستجابة للمطالب المصرية، نبهت وزارة الإمدادات العسكرية البريطانية إلى ضرورة "حضور بريطانيا في المنافسة على السوق المصري".
قالت وزارة الإمدادات العسكرية البريطانية إن الطلبات المصرية "غير معقولة"
شمل مشروع إنتاج الأسلحة المصري غير المسبوق خطة وصفتها وزارة الإمدادات العسكرية البريطانية بأنها "أقل طموحا"
مال البريطانيون إلى الاستجابة للخطة المصرية لإنتاج الأسلحة محليا. واستند موقفهم إلى قناعتهم "بضرورة أن يظل الجيش المصري قويا"
كانت العلاقات جيدة بين نظام الملك فاروق في مصر والمملكة المتحدة، التي كانت قواتها لا تزال موجودة على الأراضي المصرية.
ومال البريطانيون إلى الاستجابة للخطة المصرية لإنتاج الأسلحة محليا. واستند موقفهم إلى قناعتهم "بضرورة أن يظل الجيش المصري قويا".
وتقول الوثائق إنه في 31 مارس/آذار 1949، أي بعد انتهاء الحرب بثلاثة أسابيع، كتب رؤساء أركان أفرع القوات المسلحة البريطانية مذكرة سرية إلى الحكومة المصرية تقول: "وجهة نظرنا هي أنه من مصلحة الكومنولث البريطاني الاستراتيجية أن تكون قوات مصر المسلحة قوية".
في الوقت نفسه، رصدت أجهزة الاستخبارات البريطانية منافسة قوية على الفوز بعقود التسليح مع مصر.
وانتهت إدارتا الجو والبر في وزارة الإمدادات العسكرية إلى أن مصر مصممة على تنفيذ مشروعها. وقالت: "تنوي مصر بشكل مؤكد المضي في إنتاج الأسلحة سواء ساعدها هذا البلد (المملكة المتحدة) أم لا".
ونبهت الإدارتان إلى أن "تقارير مكتب المعلومات المشترك (وهو جهة مخابراتية) تشير إلى أن مصر استوردت بالفعل آلات لهذا الغرض، والشركات السويسرية والإيطالية مشاركة".
وأشارت الإدارتان، فضلا عن ذلك، إلى أنه "تم رصد مبلغ كبير في الميزانية المصرية لتحقيق غرض سريع يتمثل في إقامة مصانع حربية، وذُكر مبلغ 30 مليون جنيه".
ونصحتا الحكومة بتشجيع الشركات البريطانية ليس فقط على أن "تعطي الاستفسارات المصرية بشأن إمكانية المشاركة في المشروع معاملة تفضيلية"، بل "حتى تشجيعها على السعي للحصول على عقود في مصر".
ماذا عن مشروع مصنع إنتاج الذخيرة؟
فيما يتعلق بإنتاح الأسلحة والذخيرة، انتهى تقرير وزارة الإمدادات العسكرية السري إلى أنه "لا يبدو أن هناك سببا يبرر ألا تكون مصر قادرة على إنتاج سلاح بطريقة متواضعة" في ظل عدم توفر ما يكفي من المستلزمات اللازمة للتصنيع.
غير أنه نصح بإرجاء النظر في الموضوع لأن "المفاوضات لا تزال بالغة السرية بين الشركات البريطانية والحكومة المصرية". واقترح "دراسة الأمر مرة أخرى عندما نعلم أكثر عن النتائج المحتملة للمحادثات".
وطلب التقرير من الشركات البريطانية التأكد من تلبية شروط ضرورية لمساعدة مصر على إنشاء المصنع. ومن هذه الشروط، أن تتوفر لدى مصر القدرة على الاكتفاء الذاتي من مواد لازمة للتصنيع مثل الصلب وفحم الكوك وحديد الصب.
وأشارت الوزارة إلى أن معلوماتها تقول إن مصر تعتمد، بالدرجة الأولى، على الاستيراد لتوفير هذه المواد.
وقالت الوزارة إنها مشغولة في مساعدة مشروعات تسليح مماثلة تنفذها باكستان ولا يمكنها، في ضوء مواردها المتاحة، مساعدة مصر في مشروعها. ونصحت وزارة الإمدادات مصر بأن تحذو حذو باكستان بأن تلجأ، إن توفرت لها المستلزمات اللازمة، إلى "طلب مساعدة مهندس ميكانيكي من إدارة مصانع الذخائر الملكية (البريطانية) سابق في بناء وتجهيز المصانع التي تريد".
وبرر التقرير تأجيل النظر في الأمر أيضا بأن مصر ستكون، على كل حال، مشغولة بمشروع إنشاء مصنع الطائرات في الوقت الراهن.
وقال: "لدى مصر على الأرجح ما يشغلها بشكل عاجل بشأن إنشاء مصنع طائرات"، ولذا فإنه يمكن تعليق إنتاج الأسلحة البرية "إلى أن تتوفر لنا معلومات أكثر عن الخط الذي سوف تأخذه المباحثات الحالية".
ماذا كان الموقف من مشروع مصنع الطائرات؟
بعد مشاورات شاركت فيها كل الوزارات والأجهزة المعنية، قبلت بريطانيا من حيث المبدأ الطلب المصري، شريطة ألا يتم توريد أي شيء يستخدم في بناء المصنع إلى مصر إلا بعد رفع حظر السلاح الأممي.
وفي 5 يوليو/تموز 1949، كتبت وزارة الإمدادات العسكرية تقريرا "سريا للغاية" إلى وزير الخارجية تؤكد فيه أن "هيئة الإنتاج الحربي المشتركة (وهي لجنة تشارك فيها كل الإدارات المعنية) درست المشروع، ومُنحت الشركة إذنا بالمضي فيه بافتراض أن حظر السلاح سوف يُرفع قبل أن يصبح من الضروري تصدير أي ماكينات أو مكونات" إلى مصر.
وأضاف التقرير أن "المفاوضات ماضية رغم أنه من المبكر جدا تحديد ما إذا كانت الشركة سوف تحصل على العقد أم لا".
وطلب من الشركة أن "تبدأ المفاوضات مع مصر بأسرع ما يمكن".
كيف تعاملت الولايات المتحدة مع المشروع المصري؟
كانت المملكة المتحدة والولايات المتحدة أكثر الدول الغربية حرصا على تطبيق حظر السلاح على العرب وإسرائيل بهدف إجبار الطرفين على التفاوض للاتفاق على تسوية للصراع.
وتكشف الوثائق عن تنسيق عالي المستوى بين البلدين. وعرضت وزارة الدفاع البريطانية على الجيش الأمريكي فحوى المناقشات بين بريطانيا ومصر بشأن السلاح.
وفي تقرير بالغ السرية، أبلغت الوزارة الجهات ذات الصلة في بريطانيا بأن رؤساء أركان أفرع القوات المسلحة الأمريكية "أوضحوا بجلاء أنه لا يمكنهم، لأسباب سياسية واقتصادية وأمنية، الموافقة على الربط بين الولايات المتحدة بأي حال وهذه المناقشات".
إضافة إلى ذلك طلب الأمريكيون "عدم الإشارة (خلال المناقشات مع مصر) إلى المصالح الأمريكية أو مشاركة الولايات المتحدة في خطط تتعلق بالشرق الأوسط".
وشدد التقرير على "ضرورة المضي في التعامل مع مصر بأسرع ما يمكن على أساس إنجليزي/مصري خالص"، أي بدون أي إشارة إلى الولايات المتحدة.
استمرت المشاورات، بين الأجهزة البريطانية، والمفاوضات مع مصر حتى بدأت ثورة 23 يوليو التي فجرت العداء بين النظام المصري بزعامة جمال عبد الناصر والمملكة المتحدة
في البداية تحفظت وزارة الحرب (التي كانت مسؤولة عن الجيوش البريطانية في الخارج) على المطالب المصرية. وأشارت إلى "مشكلتين" تتمثلان في "حجم وشكل الجيش المصري" و"نوعية الأسلحة المطلوبة".
وفي تقييم رسمي سري، قالت الوزارة إن "الشعور هو أن المصريين لديهم أفكار باهظة بشأن تركيبة قواتهم المسلحة. ولذا، فإن الخطوة الأولى هي التوصل إلى اتفاق ما بشأن ترشيد الخطط المصرية أو إلغاء الفكرة برمتها"، في إشارة إلى خطة التسليح.
وتتمثل المشكلة الثانية في نوعية الأسلحة المطلوبة. وقال التقييم إن الوزارة "سوف يتعين عليها دراسة المعدات الجديدة المحظور تصديرها لأسباب سرية. وهذه بشكل أساسي مشكلة رئاسة هيئة الأركان المشتركة".
وقررت الوزارة أنه "عندما تتم دراسة هاتين النقطتين المبدئيتين، فإنه يمكن للفروع المختصة في وزارة الحرب أن تقيم المتطلبات بسهولة إلى حد ما".
ويضيف التقييم أنه "من المستحيل بالطبع محاولة توفير الأسلحة، سواء من المخزون أم من الإنتاج الجديد حتى يُعرف شكل وحجم القوة (العسكرية المصرية) المقترحة والاتفاق على الأنواع العامة للمعدات المراد توريدها".
وأسْنِدت إلى نواب رؤساء أركان الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة البريطانية مهمة تحديد إلى أي مدى يمكن لوزارة الحرب أن تفرض رأيها بشأن شكل وحجم القوات المسلحة المصرية.
ويقول التقييم إنه "بمجرد توضيح هذا الأمر، يمكن لرؤساء الأركان التفاوض بشأن أنواع المعدات التي تلائم القوات (المصرية)".
واستمرت المشاورات، بين الأجهزة البريطانية، والمفاوضات مع مصر حتى بدأت ثورة 23 يوليو/ تموز التي فجرت العداء بين النظام المصري بزعامة جمال عبد الناصر والمملكة المتحدة.