قضايا وآراء

بريمر وخطته التدميريّة القاتلة!

جاسم الشمري
1300x600
1300x600
لم يكن حلما، بل كانت حقيقة صادمة تلك التي تتناقلها وسائل الإعلام الغربيّة والعربيّة بأنّ القوّات الأمريكيّة، ومعها عشرات الجيوش الأجنبيّة، قد انتشرت في عموم مدن العراق وسيطرت على مجريات الأمور!

بداية كارثة بلاد الرافدين كانت في مثل هذه الأيّام قبل 18 عاما، وقد سبقها حصار دوليّ قاتل استمرّ منذ آب/ أغسطس 1990 وحتّى لحظة الاحتلال. وقد رافقت نكبة الاحتلال مئات الصواريخ العابرة للقارّات، ومئات الطلعات الجوّيّة، وعشرات الجيوش المدجّجة بأحدث الأسلحة المحرّمة وغير المحرّمة، وبعد أكثر من أسبوعين من المواجهات غير المتكافئة كانت النتيجة المتوقّعة، والفاجعة المُرتقبة، ودخل العراق في مرحلة اللا دولة!

مأساة العراقيّين لم تتوقّف عند حدود الضربات العسكريّة الوحشيّة التي لم تميّز بين المدنيّين والعسكريّين، بل زاد الأمر تعقيدا بعد عدّة أسابيع حينما تمّ تعيين بول بريمر كرئيس للإدارة المدنيّة، وللإشراف على "إعادة إعمار العراق" من قبل الرئيس الأمريكيّ جورج بوش الابن.
مأساة العراقيّين لم تتوقّف عند حدود الضربات العسكريّة الوحشيّة التي لم تميّز بين المدنيّين والعسكريّين، بل زاد الأمر تعقيدا بعد عدّة أسابيع، حينما تمّ تعيين بول بريمر كرئيس للإدارة المدنيّ

ومع اقتراب طائرة بريمر العسكريّة من مطار بغداد الدولي، كانت قوّات الاحتلال تتفرّج على بقايا عمليّات النهب والسلب لخزائن العراق الماليّة والأثريّة، وهي لا تحرك ساكنا، وكأنّ واجبها انتهى بمجرّد حرق البلاد وتضييع مفهوم الدولة، ومتابعة وتشجيع الفوضى، ومنها تلك السرقات المخجلة!

حطّت طائرة بريمر على أرض العراق في الثاني عشر من أيّار/ مايو 2003، وكانت البداية لمرحلة جديدة ومدروسة بعناية، ولا علاقة لها بالإشراف على إعادة الإعمار.

ذكر بريمر في كتابه "عام قضيته في العراق"، أنّ الرئيس بوش قد فوّضه "بالسلطات التنفيذيّة والتشريعيّة والقضائيّة كافة في العراق". والحقيقة، كان هذا التخويل بداية عمليّة لتدمير الدولة!

ولا ندري كيف مُنِح "بريمر" كلّ هذه الصلاحيّات الشاملة؟

وبعد وصوله مباشرة إلى العراق، تسنّم بريمر مقاليد الحكم خلفا للجنرال المتقاعد جي غارنر، واتّخذ العديد من القرارات المعدّة سلفا، وأبرزها:

1- اجتثاث حزب البعث!

2- حلّ الكيانات، بما فيها الجيش، وأجهزة الأمن والمخابرات التابعة للدولة السابقة كافة!

3- قرار استحداث آليّة لدمج المليشيات في القوّات المسلّحة والأمن.
هذه القرارات التدميريّة، بما فيها قرار تشكيل مجلس الحكم الانتقاليّ منتصف العام 2003 وغيره، ثبّتت ركائز الطائفيّة والقوميّة في العراق، ومهّدت الطريق لمرحلة الضياع التي نحن فيها اليوم!

هذه القرارات التدميريّة، بما فيها قرار تشكيل مجلس الحكم الانتقاليّ منتصف العام 2003 وغيره، ثبّتت ركائز الطائفيّة والقوميّة في العراق، ومهّدت الطريق لمرحلة الضياع التي نحن فيها اليوم!

وبعد 18 عاما من الاحتلال، أو التغيير أو الضياع، يئن العراق اليوم تحت جملة من الصور القاتلة، وسنحاول الإشارة لبعضها؛ لأنّ ذكرها جميعا بحاجة لدراسات علميّة مطوّلة:

- تشويه النظام السياسيّ، والمزج بين السياسة والسلاح داخل العمليّة السياسيّة.

- عدم وضوح ولاء غالبيّة القوّات المسلّحة والأمنيّة.

- تنامي المليشيات، وضمور سلطات "الدولة" على القوّات المسلّحة الرسميّة.

- فشل النظام الديمقراطيّ، وتفريخ مئات الأحزاب، ولاحقا بروز ظاهرة الأحزاب الشبابيّة، وغالبيّتها خرجت من رحم الأحزاب المشاركة في العمل السياسيّ الهزيل المستمرّ، وتغوّل قوّة السلاح المنفلت على إرادة الجماهير وصناديق الاقتراع، مع قناعة جماهيريّة شبه مطلقة بفشل العمليّة السياسيّة، بدليل ثورة تشرين المستمرّة حتّى اللحظة.

- ضياع أكثر من ألف مليار دولار من موازنات العراق الضخمة، ضمن عمليّات فساد الماليّ والإداريّ عبر شخصيّات فاعلة في الدولة!

- عجز الحكومات المتعاقبة عن نشر الأمن وتقديم الخدمات الصحّيّة والبلديّة وغيرها، على الرغم من الإمكانيات المادّيّة الهائلة.

- الظلم القضائيّ وهضم حقوق عشرات آلاف الأبرياء في السجون، ومنهم من نُفّذ بحقّهم أحكام الإعدام الباطلة.

- عدم ظهور أيّ مشروع حقيقي في القطاعات الصناعيّة والتجاريّة والخدميّة وغيرها.

- استمرار كارثة النزوح الداخليّ والخارجيّ!
بعد كلّ هذه السنوات العجاف، لا أحد يعلم مَنْ الذي يحكم العراق الآن.. ومَنْ الذي يُصدر الأوامر المدنيّة والعسكريّة، ومَنْ الذي يُحرّك أحجار رقعة الشطرنج المليئة بدماء الأبرياء، وصرخات اليتامى، والثكالى، والأرامل!

- تحوّل العراق لساحة صراعات إقليميّة، وفي مقدّمتها الصراع الأمريكيّ- الإيرانيّ.

- عودة ظاهرة الاختطاف والاغتيالات والتهريب وتفشي المخدّرات.

هذه الحقائق وغيرها حُفِرت في ذاكرة العراقيّين، وخُلّدت في ذكرياتهم؛ لأنّها جزء من واقعهم البائس!

خلاصة الكلام، أنّه بعد كلّ هذه السنوات العجاف، لا أحد يعلم مَنْ الذي يحكم العراق الآن.. ومَنْ الذي يُصدر الأوامر المدنيّة والعسكريّة، ومَنْ الذي يُحرّك أحجار رقعة الشطرنج المليئة بدماء الأبرياء، وصرخات اليتامى، والثكالى، والأرامل!

لقد دمّروا العراق بحجّة تحريره، وقتلوا أهله بذريعة تخليصهم، وسحقوا البلاد بأكذوبة إعمارها وتطويرها!

فكيف يمكن تفهُّم "التحرير، والحرّيّة، والخلاص، والتطوير والبناء" وسط مستنقعات التكبيل، والتكميم، والإرهاب، والخراب والدمار؟


twitter.com/dr_jasemj67
التعليقات (2)
همام الحارث
الأحد، 16-05-2021 04:25 ص
من أكبر الأكاذيب الشائعة في الغرب مقولتهم ( Live & Let Live) أي (عيش و دع غيرك يعيش) لسببين أولهما أنها تتناقض مع مبدأ الرأسمالية الذي يزرع الأنانية في تفكيرهم و سلوكياتهم و ثانيهما أن هذه المقولة تناقضت بشكل صارخ مع أفعالهم على أرض الواقع سواء داخل بلادهم مع "الغير المختلف عنهم" أو بشكل أبرز خارج بلدانهم بغزوهم بلاد "الآخرين المختلفين عنهم" و في أيام الاستعمار القديم و في أيام الاستعمار الجديد. مقولة هؤلاء الحقيقية ، المنسجمة مع ممارساتهم ، هي : عش أنت و دع غيرك يذهب للجحيم . ما الذي فعله هؤلاء الغربيون في المستعمرات غير التدمير و التقتيل و التخريب و نهب الثروات من دون رحمة ؟ ... هؤلاء القوم لا يرجى خير منهم و لا يؤمن شر منهم ، و ليست لديهم أفكار و مفاهيم جذابة . حديثهم عن "رسالة أو عبء الرجل الأبيض" هو دجل ، و زعمهم بالاهتمام بحقوق الإنسان الأساسية هو هراء و خاصة حين يكون ذلك الإنسان مغايراً لهم من حيث الدين و اللون و العرق . رغم الآلام التي حصلت لدى أمتنا من احتلال عسكري مباشر لأكثر من بلد و من القمع لثورات الشعوب إبان الثورات المضادة لها ، تبين من دون شك أن الغرب – و يلحق به غيره في الشرق – هو الداعم الأكبر للطغيان و للمستبدين في بلادنا الذين فرضوهم بالقهر على شعوبنا . لا أمل في هؤلاء على الإطلاق ، و لذلك ينبغي أن يكون التركيز على أنفسنا من حيث تنمية مخزون "التفكير و الثقافة و الإدراك" المستمد من تراثنا العظيم .
كاظم صابر
السبت، 15-05-2021 06:27 م
كان في بداية عصر النبوة رجلاً يسمى عُيَيْنة بن حِصْن بن حُذيفة و لقبه (الأحمق المطاع) على اعتبار أنه كان يقودُ عشرة آلاف رجل "مجرورين بإذعان له من دون تفكير". ارتكب عدة حماقات مع والده و مع النبي صلى الله عليه و سلم و مع الصحابة ... و قصته طويلة . الشاهد في الموضوع أن دولة كبرى أو الدولة الأقوى ، في عصرنا الحالي ، يمكن أن يقودها حمقى . لديهم عقول و لكنهم مصابين بداء الحمق ، و حين يكون واقعهم كذلك فسينطبق عليهم قول الشاعر (لِكُلِّ داءٍ دَواءٌ يُسْتَطَبُّ بِهِ ** إلاّ الْحَماقةَ أَعْيَتْ مَنْ يُداويها) ، لذلك تجد أن مثل هذه الدولة تسير من فشل إلى فشل و تتمادى في غيَها من دون أن تكون هنالك "إعادة نظر" و بسبب وجود فائض من غرور القوة . استهدف الحمقى منطقتنا بما تسمى "الفوضى الخلاقة" أو الأدق "الفوضى الهلاكة" و تبعوا شياطينهم بالعمل على إعادة بلداننا إلى العصر الحجري . ماذا استفادوا و ماذا سيستفيدون ؟ الجواب العقلاني من أي حكيم "لا شيء" . هذا "بول بريمر" الذي قال أن هدفه الأساسي "تصحيح الخطأ التاريخي في العراق " ما قام هو و حكومته إلا بتخريب هذا البلد العزيز من خلال تسليط الجهلة و اللصوص عليه. في بيتين من عيون الشعر العربي ، يقول أمير الشعراء أحمد شوقي رحمه الله ( يا وَيحَهُم نَصَبوا مَناراً مِن دَمٍ ** توحي إِلى جيلِ الغَدِ البَغضاءَ . ما ضَرَّ لَو جَعَلوا العَلاقَةَ في غَدٍ ** بَينَ الشُعوبِ مَوَدَّةً وَإِخاءَ) . لا يمكن لأي رجل دولة حقيقي و سياسي متمرس أن يعتبر أن بلاده تحقق منفعة من خلال إيذاء الآخرين ، و لن يكون صعود إلى القمة على جماجم البشر . لقد جربت هذا دول سادت ثم بادت ، و دراسة التاريخ مهمة جداً لتعلم بناء الدول و إتقان العمل السياسي . من لا يعرف التاريخ سيكون أعمى البصيرة أعمى البصر و "قد ضل من كانت العميان تهديه" . مثل هؤلاء معاول هدم لبلادهم و للإنسانية جمعاء .