قضايا وآراء

اللاجئون يخوضون الانتخابات الهولندية بجدارة

عبد السلام فايز
1300x600
1300x600
أُسدِلَ الستارُ مؤخراً عن انتخابات الأحزاب الهولندية، حيث تنافس 37 حزباً على 150 مقعداً داخل البرلمان. وقد وُصِفت المنافسة هذه المرة بالمحتدمة جداً قياساً مع انتخابات الدورة السابقة قبل أربعة أعوام، كما أنها أسفرت عن فوز حزب vvd الذي يتزعّمه رئيس الوزراء الهولندي مارك روتا بأغلبية المقاعد..

اللّافت لنا في هذه الانتخابات مشاركة اللاجئين الذي حصلوا على حقّ المواطَنة (الجنسيّة)، والذين بلغ عددهم ما يقارب 90 ألف مواطن مُجنّس من أصول سورية وفلسطينية وعراقية وأخرى. ويمكن القول إنّ هؤلاء قد خاضوا هذه التجربة الجديدة بنجاحٍ واضح، رغم بعض السلبيات التي لا بد وأن تطفو على السطح، لا سيما أننا نتكلم عن رقمٍ ليس سهلاً في معادلة الانتخابات، ولعلّ الأدلةَ الدامغةَ التي تثبت حقيقة هذا النجاح تتبلور في النقاط التالية:

أولاً: التنوّع الملحوظ في اختيار الأحزاب أثناء عملية التصويت، وعدم التكتّل خلف حزبٍ واحد كما كان متوقّعاً قبل بدء عملية التصويت، فلا تكاد تسأل خمسةَ لاجئين على سبيل المثال؛ عن اسم الحزب الذي صوّتوا له إلّا وتسمع منهم إجاباتٍ مختلفة وأسماء متنوّعة، حتى ضمن الأسرة الواحدة لم يوجد تحزّبٌ أو تزمّت تجاه مُسمّى بعينه، والأجمل من كل هذا أنّ الأسباب التي يقدّمها اللاجئ المُجنّس لدى سؤاله عن سبب اختياره هذا الحزب تحديداً، تجدها مقنعة وفيها شيء من المنطق والعقلانية. وهذا ما يبشّر بالخير ويدل على أننا شعبٌ قادرٌ على خوضِ الديمقراطية وصناعة المستقبل إذا ما أُتيحت له الفرصة.

وهذا ما حصل أثناء الانتخابات الهولندية، فالذين صوّتوا على سبيل المثال لصالح حزب vvd قالوا إنّ حكومة مارك روتة الذي يترأّس هذا الحزب هي التي استقبلت اللاجئين، وقدّمت لهم العون وساعدتهم للوصول إلى درجةِ المستقبل الأولى، بعيداً عن العنصرية، ولهذا من المناسب أن يمنحوا أصواتهم لهذا الحزب رغم الفضائح الأخيرة المتعلقة بالحكومة الهولندية.

والذين صوّتوا كذلك لحزب D66 الذي تتزعمه وزيرة التجارة الهولندية سيخريد كاخ، قالوا إنّ كاخ كانت تعمل في وكالة الأونروا وزارت بلداناً عربية متعددة مثل سوريا ولبنان، وهي مناصرة للّاجئين وقريبة جداً من بيئتهم، كما أنّ زوجها هو الدبلوماسي الفلسطيني أنيس القاق الذي كان بمرتبة نائب وزير في حكومة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، ولهذا كانت تعاني هي وأسرتها من العنصرية أيضاً، وكثيراً ما كانت تشارك في الاحتجاجات المناهضة للعنصرية، حيث كانت تقود السيارة بنفسها بدلاً من زوجها عند عبور الحدود إلى سويسرا، كي لا تتعرض لموقف عنصري، ولهذا لا يضيعُ التصويت إذا ما صبّ في صالحها..

والذين صوّتوا لحزب Groen links قالوا إنه من أحزاب اليسار، وهو منافس شرس لحزب فيلدرز اليميني المتطرف المعادي للإسلام والمهاجرين، والذي خسر بضعة مقاعد عن الدورة السابقة نتيجة تراجع العنصرية في صفوفِ أنصاره الذين بدؤوا يفقدون الثقة به، وبالتالي لا مانع لديهم من دعم هذا الحزب المنخرط في المجتمع الهولندي، ويحافظ في الوقتِ نفسه على معاداة التمييز العنصري، وهو يحمل برنامجاً داعماً للاقتصاد وقطاع التعليم والصحة في هولندا.

والذين صوّوا لحزب Denk رغم قلة عدد مقاعده في البرلمان، قالوا إنّ هذا الحزب هو أقرب الأحزاب لمبادئنا وتقاليدنا، وهو أكثر الأحزاب مُناصَرةً للقضية الفلسطينية ودون أي منازع، لا سيما أنّ تونهان كوزو، أبرز ممثلي هذا الحزب، كان قد رفضَ مصافحة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أثناء زيارة الأخير إلى هولندا عام 2016 م. كما أنه زار القدس مؤخراً تحت راية فلسطين وليس تحت حراب الاحتلال؛ كما فعلت الوفود المُطبّعة مع الاحتلال بعد إعلان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب عن اعتراف بلاده بالقدس عاصمة أبدية لدولة الاختلال (لا الاحتلال).

وبالتالي، يمكن القول إنّ هذا التنوع في الاختيار يثبت أننا قادرون على خوض التجربة في أي زمانٍ ومكان..

ثانياً: لم يصوّت اللاجئون للأحزاب التي اختاروها عن عبثٍ أو جهل، بل عكفوا على الاستفسار عنها قبل بدء الانتخابات، وعن برامجها الانتخابية وأعضائها وتاريخها، ونبشوا التاريخ القديم والمعلومات العتيقة حول كل حزب، والتي كانت مطويّة فوق الرفوف، وكثرت النقاشات والاستفسارات والمشاورات والاتصالات، كما عُقِدت الندوات الالكترونية وغرف الدردشة من خلال تطبيق zoom، للتباحث في عملية التصويت.

وقدّم اللاجئون نموذجاً ناجحاً للغاية، ولم يكن الأمر بالنسبة إليهم مجرد تلوين دائرة المرشح في ورقة التصويت، بل كانت معركة محتدمة لصناعة المستقبل وإثبات الحضور بكل أريحية وشفافية مطلقة. كما تساءل اللاجئون كثيراً عبر منصات التواصل عن سبب عدم قدرتهم على خوض هذا النوع من الديمقراطية في بلدانهم الأم التي ترزح تحت نير الاستبداد.

فالفلسطيني المُجنّس تساءل والحرقة في قلبه عن سبب تصويته في انتخابات البرلمان الهولندي، في الوقت الذي يستجدي فيه أن يشارك في انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني أو الانتخابات الرئاسية. فكيف يكون قادراً على صناعة شيء من السياسة في هولندا؛ في حين يُستَثنى اسمه من جدول التصويت في بلده الأم بذريعة أنه من فلسطينيي الخارج؟!!

ثالثاً: لم يكتفِ اللاجئون بالتصويت فحسب، بل وردت هناك أسماء خاضت تجربة التنافس على مقاعد البرلمان أيضاً، وتمّ ترشيحها في قائمة الأحزاب المتنافسة، وقدّمت برنامجها الانتخابي بكلّ ثقة، وقادت حملةً انتخابية وُصِفَت بالناجحة، وبالتالي وجدَ المنتخبون أنفسَهم أمام مسمّياتٍ شرقية تحمل بين طيّاتها مشروعاً جديداً..

حتى اللاجئون المُجنَّسون الذين امتنعوا عن التصويت كانت لهم مبرراتهم التي أفادت بعزوفهم عن عالم السياسة وعدم إيمانهم بالفكرة أساساً؛ لا في هولندا ولا في أيّ بلدٍ آخر. ومثلُ هذه الأفكار نجدها في كل عمليةٍ انتخابية تتمّ في بلدان العالم كُلّها، ومُخطِئٌ من يظنّ أنّ من امتنع من اللاجئين عن التصويت هو مقصّرٌ أو مهمل، بل هذا يثبت أننا كلاجئين شاركنا ونجحنا في عملية الانتخابات الهولندية في مراحلها كافة، بدءاً من الترشح وانتهاءً بعملية الامتناع عن التصويت..
التعليقات (0)