قضايا وآراء

مفهوم الوطن في عالم كورونا

هاني بشر
1300x600
1300x600
تصادف هذا الشهر الذكرى السنوية الأولى لبداية الإغلاق العام المرافق للحدث الكبير الذي ضرب العالم وأحال العولمة إلى جزء من الماضي، وأرغم الجميع على البقاء في منازلهم. نعم معظم الناس في العالم باقون في منازلهم لم يغادروها؛ خاصة كبار السن. وقد أعاد هذا العام صياغة علاقة الفرد بمحيطه الصغير والكبير في مختلف الدول والثقافات، وهو الأمر الذي ستكون له انعكاساته على المدى القصير والطويل.

في عام كورونا أدركنا أن البيت هو الوطن، وأن إجراءات حسن الجوار السياسي تبدأ من الدور الثالث إذا كنت من سكان الدور الثاني، وأن الأمان الاقتصادي هو وجود القوت في المطبخ من دون مشاكل، وأن السياسات الصحية لا تقل أهمية عن السياسات الدفاعية، وأن الطبيب يخوض حربا مع كائنات غير مرئية لا تقوى عليها أقوى الجيوش، وأنه لا يمكن للطبقة الاجتماعية ولا المال شراء العافية والصحة بعد أن حل الوباء وانتشر الداء، وأن السعيد من استثمر في جسده واغتنم صحته قبل سقمه، فأسعفته مناعته في وقت لا ينفع مال ولا بنون.
أعاد هذا العام صياغة علاقة الفرد بمحيطه الصغير والكبير في مختلف الدول والثقافات، وهو الأمر الذي ستكون له انعكاساته على المدى القصير والطويل

أعادت أزمة كورونا الاعتبار لقيمة الشارع والحي والمدينة وكل ما هو محلي، وأن فكرة ركوب الطائرة والتنقل لأي مكان في أي وقت هي فكرة غيرة عملية، وأنه لا مجال لهروب أولئك الذين يظنون أنهم يمكنهم الإفلات بجرائمهم من أوطانهم المحلية، خاصة في دوائر السلطة الفاسدة. وأظهرت الجائحة أن قطاعا عريضا من الناس لا يعيشون حقيقة في بلد واحد، وأن حياتهم مقسومة على عدة أوطان وهم لا يشعرون، في حين أن انتماءاتهم وحقوقهم غير موزعة بالتساوي بين هذه الحيوات.

أثبتت كورونا أيضا أهمية اختيار الجار قبل الدار، وأن الانتماء يبدأ من أصغر الدوائر وهي الأسرة والبيت، وأن الوحدة والفردانية التي بشرت بها الثقافة الغربية الحديثة ليست سوى وهْمٍ يحمل معه كل أدران الأمراض النفسية التي انفجرت في المجتمعات فور أن عاد الإنسان لبيته محملا بكل ما يلزمه من أساسيات الحياة، واكتشف أنه أهمل روحه التي بين جنبيه.

أظهرت الجائحة أن الحكومات لا تعرف كل شيء، وأن الحدود قد تتحول إلى أسوار بين عشية وضحاها، فيجد الإنسان نفسه عالقا في بلد غير بلده مضطرا لأن يتعايش مع واقع جديد، في وقت لا يعترف فيه البلد الجديد به ولا بظروفه مع غياب تشريعات تتعلق بأمر العالقين، من أمثال دور الممثل توم هانكس في فيلم "تيرمينال" حين تقطعت به السبل في منطقة الترانزيت بالمطار، وأن الروابط بين الدول أكثر هشاشة مما نظن للمستوى الذي يصل بدولتين أوروبيتين أن يتصارعا على شحنة كمامات، وأن التجانس والتعاون بين الأفراد أوثق صلة وأكبر أثرا من روابط الحكومات.
الروابط بين الدول أكثر هشاشة مما نظن للمستوى الذي يصل بدولتين أوروبيتين أن يتصارعا على شحنة كمامات، وأن التجانس والتعاون بين الأفراد أوثق صلة وأكبر أثرا من روابط الحكومات

كان هذا العام اختبارا قاسيا لم ينجح فيه كثيرون حول مفهوم النجاة، فالفيروس ينتقل بسرعة الصاروخ من دون جواز سفر، وأثبت أن النجاة جماعية ولن تكون فردية مثل هكذا حالات. كما بيَّن أن عصر السرعة خرافة يمكن لإيقاع الحياة أن يسير بدونها، وأن سهولة حركة الأشخاص والبضائع والأفكار يسمح أيضا للأمراض والأوبئة بالانتشار.

لقد كان هذا العام مرآة نقية رأينا فيها تفاصيل مشاهد حياتنا وأوطاننا التي كنا نظن أننا نعرفها، فأدركنا أننا لم نكن نراها، وغيرت من أولوياتنا فأدركنا أهمية البيت وأعدنا الاعتبار للجار ذي القربى والجار الجنب والصاحب بالجنب وابن السبيل. كانت مواجهة مؤلمة للإنسان مع ما اقترفت يداه، وصفعة كبيرة أفاقت من ظن أن عجلة الحياة تسير دائما إلى الأمام بوتيرة متسارعة.

twitter.com/hanybeshr
التعليقات (0)