هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
من التحديق في العدم إلى الوقوع في الجنون، تمشي رواية "شمس بيضاء باردة" للروائية الأردنية كفى الزعبي، الصادرة عن دار الآداب اللبنانية علم 2018، من بدايتها إلى نهايتها، متتبعة السيرة النفسية والفكرية والعاطفية لبطلها الشاب القروي "راعي".
وتنبني الرواية سردياً على أسلوب السارد المتكلّم، التقنية التي مكّنت الكاتبة من وضع شخصية بطلها تحت المجهر، كاشفة عن عقدته النفسية وأزمته الوجودية وصراعاته الاجتماعية. واستخدمت في الوقت نفسه سلطتها اللغوية والثقافية والأيديولوجية في اقتياده عبر درب الآلام الوجودية لتعلّق شخصيته المحطمة في نهاية الرواية على صليب الجنون.
لم يكن "راعي" ابن السبعة عشر عاماً فيلسوفاً، لكنه أجبر على أن يحمل "صخرة سيزيف" الثقيلة. ولم يكن الشاب القروي منبتّ الصلة عن عائلته وبيئته الاجتماعية، لكنّه اقتيد بسبب حبّه للقراءة إلى صدام فكري حاد مع أب متديّن كاره لكلّ معرفة غير دينية. ولم يكن المراهق الخجول مؤهلاً لتفتّح وعيه الجنسي، لكنّ أحداث الرواية هيّأت له ظرفاً استثنائياً ليقع في مصيدة تجربة جنسية محرّمة، أرهقت ضميره الأخلاقي، وأشركته في جريمة بشعة، ظلّ شبحها يطارده، وكانت سبباً رئيساً في عذاباته وإخفاقاته المتواصلة، حتى أوصلته إلى نهايته المأساوية.
أحكمت الرواية حصارها على شخصية "راعي"، وجعلت منه أمثولة في الشقاء والبؤس. واستحضرت الرواية مأساة "جلجامش"، في الملحمة العراقية المعروفة، وخطيئة "راسكولينكوف" الرهيبة، في رواية "الجريمة والعقاب" لدستويفسكي، وشخصيات "ألبير كامو" الملعونة. وألقت أحمال كل هذه الأعمال الأدبية الثقيلة على كاهل "راعي"، فأرهقته بقضاياها الباهظة التكاليف، وأحرقته بنار أفعالها اللاهبة، وأضنته بالبحث عن أجابات لأسئلتها الفلسفية المحيّرة.
أحاطت الرواية شخصية "راعي" بالنماذج السلبية من الشخصيات، الأب والأم ومدير المدرسة والمعلمين الزملاء. وإن لم تكن سلبية، فهي شخصيات جاهلة بلهاء مثل عائشة وأمها، ورجال القرية، وعموم الناس الماشين في الشارع "ما الذي يجمعني بهؤلاء الناس حتى أسير معهم في الشارع ذاته، وفي الزمان ذاته؟!". وإن لم تكن هذه وتلك، فهي شخصيات ملعونة مثله، ومحكوم عليها بالعذاب لا لشيء عظيم فعلته تميّزاً عن بقية الناس، وإنما لأنها تقرأ الشعر والأدب، وتحمل وعياً سياسياُ واجتماعياً ناقداً فحسب، برغم أنها ليست شخصيات مناضلة، ولا مُسيّسة، ولا مُحزّبة.
قسمت الرواية العالم المحيط بشخصية "راعي" إلى ثلاثة أقسام، الحوار بينها مقطوع، والتفاهم معدوم، واللقاء دونه الجنون أو الموت. وجعلت شخصية "راعي" ممزّقة بالعذاب النفسي بين العوالم الثلاثة. عالم القرية الذي تتصدره شخصية الأب، وهو عالم العُصاب الديني، والنفاق الاجتماعي، والمعايير الأخلاقية المزدوجة، والجهالة المطلقة، والعداء للمدينة بكل ما تمثله من قيم وعادات. وعلى الرغم من أن شخصية "راعي" سعت للخلاص من أمراض هذا العالم، إلا أن تورطه في العلاقة الجنسية مع "عائشة" جعله يحمل وصمة العار الأخلاقي بعد هروبه إلى المدينة، لتقف عائقاً أمام كل فرصة للنجاح في حياته.
والعالم الثاني هو عالم المجتمع المتخلف في أفكاره وعاداته، عالم الناس الذين "يسيرون في الشوارع، والذين يركبون الحافلات، والذين ينتظرون الحافلات" وإليه ينظر نظرة استعلائية، فيغبطُ أصحاب هذا العالم على جهلم وبساطتهم وعلى "السهولة الفطرية التي يواجهون بها هذه الحياة... لكم غبطتهم على استسلامهم للحقيقة، تلك الواضحة والصلبة"، ويتمنى أن يكون جاهلاً وسطحياً مثل "أن أشبههم؛ أن أغدو طبيعياً مثل سائر خلق الله الطبيعيين".
لكنّ سلطة الرواية لا تمكنّ "راعي" من التصالح مع محيطه الاجتماعي، ولا تسمح له أن يرى في الناس العاديين إلا مصدراً للصخب والضجيج والجحيم الوجودي، ولا تسمح له أن يرى في زملائه المعلمين، إلا أعداء كارهين، ومتآمرين متربصين. ولا في مدير المدرسة إلا شخصية بيروقراطية كاريكاتورية "قصير القامة بكرش كبير، ورأس صغير، ووجه يتوسطه أنف عظيم".
ولا في طلاب المدرسة إلا "التلاميذ الفقراء، المراهقين، المنساقين إلى رغباتهم الغرائزية في الحياة...ويعيشون وجودهم المادي ويمارسونه ويستجيبون لمتطلباته، على نحو صادق من دون أوهام العقل والشعر والمعرفة". ولا في المدرسة نفسها إلا مكاناً "تمتلئ ساحتها بالنفايات، ولا تكفّ الروائح النتنة عن الانبعاث من مبنى حمّاماتها؛ المدرسة التي تقع في أفقر الأحياء، حيث تتكدّس البيوت البائسة إلى جوانب شوارع تتزاحم فيها أبخرة الهموم والجهل، والشجارات والأوهام والصلوات".
والعالم الثالث هو عالم السكارى والمتشردين والمتسولين والمومسات والمثقفين المحبطين، وهذا هو العالم الذي تجعل الرواية شخصية "راعي" منتمية له انتماء عضوياً ووجودياً، ففيه تجتمع صفات الوفاء والكرم والصدق والنبل والنقاء، بل والمعرفة والحكمة والفلسفة المستقاة من خيبات الأمل، والتجارب المريرة، والنفاذ إلى الجوهري والحقيقي في الحياة. ولا عجب في ظل علاقة الانتماء بين "راعي" وهذا العالم، أن تخصص الرواية مساحة كبيرة للمكتبة العامة (مكتبة شومان)، حيث يلتقي "راعي" بالمرأة التي يحبها، وللبارات، حيث يلتقي أصدقاءه من السكارى، والمثقفين المحبطين.
ولا تعدو صورة المدينة (عمان والزرقاء) أن تكون غرفة قذرة بلا نوافذ، يسكن فيها وحيداً مع الكوابيس والأفكار السوداوية والخيالات المريضة، أو شارعاً مزدحماً بالحشود البشرية المزعجة. أو مكتبة عامة يراقب فيها امرأة يحبها ولا يجرؤ على فتح باب الحديث معها. أو حانة يسلو فيها همومه مع السكارى والمتشردين، ويخوض في حوارات فلسفية لا نهاية لها مع أصدقائه المثقفين المحبطين.
فكرة الثالوث تبرز في الرواية على أكثر من صعيد، لكنه على كل الصعد تحكمه علاقة التنافر وليس التكامل، فالثواليث في الرواية ليست متكاملة كالثالوث الذي تقوم عليه العقيدة الدينية المسيحية. ولا متآلفة متعاونة كثالوث الحجارة الذي تقوم عليه القِدر فوق النار، وتسمّى الأثافي. إنما الثواليث في الرواية تقوم على مبدأ التعارض والتصارع والتجاذب المستمر، مستمدة طبيعتها غير المستقرة من التقسيم النفسي الفرويدي للشخصية الإنسانية، بوصفها انعكاساً لصراع السيطرة وتبادل المواقع بين العنصر الغرائزي الطبيعي في الإنسان، والعنصر الأخلاقي المتسامي فيه، والعنصر الوسيط، الذي يعمل على التوسط بينهما للحيلولة دون أن ينتصر أحدهما على الآخر، فيصبح الإنسان إما حيواناً وإما ملاكاً، وكلاهما يُخرج الإنسان من حدود إنسانيته.
ويعبّر "راعي" عن هذه العلاقة الصراعية ثلاثية العناصر في بنيته النفسية "كنت أظن أن الإنسان إثنان، ولكني اكتشفت مؤخراً أنه ثلاثة... الأول شرير ومنحاز إلى ذاته ورغباته... والثاني هو الخيّر الذي لا يكفّ عن وضع القيود ويحاول فرضها على الأول، كي يهذبه، ويجعل منه إنساناً متمسكاً بالأخلاق... والثالث هو الذي يقف بينهما ... وهو ضحية الاثنين معاً".
وتنسحب العلاقة ثلاثية العناصر المتجاذبة، على الصداقة التي أقامتها الرواية بين "راعي" وصديقيه "أحمد" و"مازن". ويمثّل أحمد العنصر الأخلاقي المتسامي، بمثاليته العالية، ورومانسيته وتعلّقه العاطفي الشديد بزوجته، وحرصه الدائم على الظهور بالبذلة الرسمية وربطة العنق. ويمثّل مازن العنصر الغرائزي البدائي، بأنانيته وحرصه على المال، وزياراته الأسبوعية لبيت المومس، وحبه للكلام البذيء.
أما شخصية"راعي" نفسها، فهي العنصر الوسيط، التائه بينهما، والمرتبط معنوياً بأحمد، لكنه معتمد مادياً على مازن. ويحاول أن يقنع الثاني بانتشال الأول من ديونه، إلا أن الثاني يرفض مد يد المساعدة للأول. وفي ضوء هذه العلاقة الرمزية، تتضح الرؤية الأيديولوجية للرواية حين تدفع بأحمد إلى الانتحار، و"براعي" إلى الجنون، وتبقي على مازن بوصفه نموذج الإنسان البراغماتي النفعي الذي لا تقوى مشاكل الواقع على تحطيمه.
روح الرواية عتيقة، وتعارضاتها كلاسيكية في حديّتها ورؤيتها إلى الواقع، وأجواؤها لا تنتمي إلى الألفية الجديدة التي تجري فيها الأحداث، ولا تظهر فيها مستجدات العصر التكنولوجية، من وسائل اتصال وتواصل، إلا في موقف وحيد يشير إليه "راعي" في وصفه السلبي لتلاميذه "كانوا،بعضهم، يشاهدون على هواتفهم المحمولة، مشاهد جنس".
وتحتقر الرواية المجتمع القروي والمدني على حد سواء، وتتمسّك بتعارض تاريخي جغرافي ثقافي، لم يعدّ قائماً بينهما. وعلى الرغم من حساسيتها الشديدة في رصد ظاهرة التديّن السلفي المسيطرة على المجتمع القروي، إلا أنها تغضّ النظر إلى حدّ بعيد عن سيطرة الظاهرة نفسها على مجتمع المدينة، مكتفية بتصوير مظاهر الفقر والتسوّل والبلطجة والتزاحم فيها.
وتوزع الرواية شهادات الجهل يميناً ويساراً على جميع فئات المجتمع، قروياً ومدنياً. وتكره الأول، وتستعلي على الثاني، ولا تترك في المدينة من يستحق صفة الوعي إلا السكارى والمتشردين والمثقفين الذين يجترّون أفكار الستينيات والسبعينيات حول المثقف المغترب واللامنتمي.
مارست الرواية ديكتاتورية الوعي الناقم على شخصياتها، فعذّبتهم بوهم الاغتراب عن المجتمع، وجلدتهم ببؤس الجوع والفشل والفقر، ودفعتهم إلى الانتحار والجنون، بعد أن صوّرت لهم الحياة غمّاً وهمّاً وقيوداً ومغالبة وأحقاداً وخيانات ونذالات، وأقنعتهم بهشاشتهم وضعفهم وقلة حيلتهم وانعدام إرادتهم وسوداوية واقعهم. وكلّ ذلك لتقدّم للقارئ عملاً أدبياً متقناً لإهانة عقله ومشاعره.