قضايا وآراء

مزيد من الغاز على روح ريجيني

ياسر عبد العزيز
1300x600
1300x600
اعتراف الحمار

لاختيار أمهر قوات أمنية في العالم أُطلقت مسابقة بين عدد من قوات الشرطة في العالم، فاشتركت الشرطة الأمريكية والبريطانية والفرنسية، وكان للشرطة المصرية نصيب في المشاركة، كواحدة من أعرق التنظيمات الأمنية في الوطن العربي والشرق الأوسط. وكانت المسابقة عبارة عن إطلاق عدد من الغزلان في الصحراء، وعلى الشرطة الأكثر مهارة أن تمسك بغزالتها في أسرع وقت ممكن. وخلال سبع دقائق استطاعت الشرطة الأمريكية الإمساك بغزالتها، وفي إحدى عشرة دقيقة أمسكت الشرطة البريطانية بغزالتها، وفي عشرين دقيقة تمكنت شرطة فرنسا من الإمساك بالهدف، وتأخرت الشرطة المصرية لساعة وساعتين، ومر اليوم ولم يعد المشاركون من الشرطة المصرية بغزالتها ولا من دونها، فقررت اللجنة المنظمة أن تخرج دوريات وطائرات للبحث عن أفراد الشرطة المصرية، وفي صباح اليوم التالي عثرت اللجنة المنظمة بعد اقتفاء الأثر على أفراد الشرطة المصرية في أحد المغارات ممسكين بحمار ويعذبونه: "قول أنا غزالة.. قول أنا غزالة"..

انتهت النكتة لكن لم تنته الحكاية.

قتلوه كما لو كان مصريا

في السادس من حزيران/ يونيو 2010 حاول شرطيان مدنيان القبض على الشاب السكندري خالد سعيد، بعد أن نشر مقطع فيديو يكشف تورط ضباط شرطة في تجارة المخدرات. فعند دخول خالد إلى مقهى إنترنت بالقرب من منزله هاجمه الشرطيان وحاولا تقييد حركته، فلما دافع عن نفسه ضربوه فارتطم رأسه برف رخامي في المقهى، وعندما رفض صاحب المقهى تصرفات الشرطيين اقتادا الشاب الناشط ليتخلصا ويخلصا الشرطة من الفضيحة، فضرباه في مدخل إحدى العمارات المجاورة حتى الموت.

لكن خالد سعيد أصبح أيقونة للثورة المصرية وعرفه العالم أجمع، ثم تكررت الحادثة مع الباحث الإيطالي جوليو ريجيني بعد القبض عليه وتعذيبه لمدة خمسين يوما قبل أن يلفط أنفاسه الأخيرة في أحد السجون السرية للشرطة المصرية، وليتم إلقاؤه في عرض الطريق. وتم نسج قصة أرادت الشرطة أن تمررها بأن الباحث الإيطالي قُتل على يد عصابة سرقة بالإكراه، ولم تصدق أم المغدور الرواية وكان أول ما علقت به الأم المكلومة: "قتلوه كما لو كان مصريا".

هذه العبارة لخصت سمعة الشرطة المصرية التي قلصت مفهوم الأمن في أمن النظام، ولخصت معنى الإنسان في حماية رأس النظام، فلا معنى للأمن لو هدد النظام، ولا معنى للإنسان إلا لمن ينتمي لهذا النظام، ولأن إيطاليا على ما فيها تفهم معنى الإنسان، فإن بلدا كاملا تحرك من صرخة أم ريجيني.. (وامعتصماه).

العقلية الانقلابية في حل الأزمة

لم تفلح فرية السطو المسلح في تبرير قتل الباحث الإيطالي، فتمت التضحية بخمسة من خيرة شباب مصر الأبرياء حظهم العاثر أوقعهم في قبضة من لا يرحم، يبحث عن حل لأزمته، فيصفيهم ويتهمهم بقتل ريجيني ظانا أنه سيغلق القضية.

النيابة الإيطالية قالت إنها لم تجد التعاون الكامل من نظيرتها المصرية، وهي وصمة جديدة في جبين القضاء المصري الذي يصف نفسه دوما بأنه شامخ! فاستعانت بمكتب خاص جمع لها الأدلة، وعندما وجد النظام أن الأمر يتأزم فتح خزائن مصر وقروضها لشراء السلاح الإيطالي، فهكذا نجح الأمر مع الفرنسيين، فلماذا لا ينجح مع الإيطاليين؟ ثم فتح مجاله البحري لشركة إيني الإيطالية للتنقيب عن الغاز في المتوسط في عقد لا يمكن لعاقل أن يبرمه، فإيني الإيطالية تحصل على نسبة 70 في المئة من المنتج ونسبة مصر صاحبة الأرض والبئر والغاز 30 في المئة، لتتنازل مصر بعدها عن حصتها لمدة سبع سنوات بعد أن طلب رأس الانقلاب البدء في الاستخراج قبل الانتخابات الرئاسية، ليجد منجزا يقدمه في هذا الاستحقاق، ولتحصل إيني على كامل منتج الغاز المستخرج وتبيع جزءا من نصيبها لشركة بريتش بتروليوم البريطانية وشركة روزنفيت الروسية.

هكذا كانت الرشوة حلا في عقلية الانقلابيين ومن يخططون لهم، لتهدأ الأمور شكليا قبل أن تعود النار لتتأجج مرة أخرى بعد حراك مدني رائع في إيطاليا دفاعا عن الإنسان. وكان الرد بالإعلان عما سمته الدوائر العسكرية بصفقة العمر مع إيطاليا، بعد أن أعلن النظام المصري عن نيته شراء طائرات مقاتلة، وطائرات متعددة المهام للقتال الخفيف والتدريب ومروحيات وزوارق مسلحة وقمر صناعي للاستطلاع، على الرغم من خزانة مصر الفارغة، بل والمديونة بمليارات الدولارات وما يزيد عن التريليون جنية مصري، لكن الحل دوما عند من يفقد الشرعية في الرشوة.

هل يحل مزيد من الغاز أزمة ريجيني بعد أن عادت إلى الواجهة؟

عاد ريجيني بقضيته إلى الواجهة مرة أخرى بعد أن كشفت مصادر قضائية إيطالية عن وجود تسجيلات لدى النيابة العامة الإيطالية، تتعلق بأشخاص جندهم ضابط كبير في الأمن للإيقاع بريجيني والدفع به للمكان الذي تم احتجازه فيه ثم تعذيبه حتى الموت، مؤكدة أن لديها شهودا خمسة على جريمة قتل ريجيني، منهم شاهد يعمل في فرع الأمن الوطني بالقاهرة، رأى ريجيني مقيدا وعليه آثار التعذيب.

وبعد أن أكد رئيس مجلس النواب الإيطالي روبرتو فيكو أن المجلس متمسك بموقفه المتعلق بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر، بعد إثبات جريمة القتل العمد والتعذيب على النظام المصري، قال رئيس الوزراء الإيطالي جوزيبي كونتي: "إن محاكمة المتورطين بمقتل الباحث جوليو ريجيني ستكون ذات أهمية دولية، وقد يشارك فيها مراقبون دوليون". وأشار كونتي إلى أن نتائج التحقيقات في مقتل ريجيني بمصر تتضمن أدلة لا تدع مجالا للشك.

والموقف الشعبي والبرلماني المتمسك بحق ريجيني في قصاص عادل، دفعت رئيس الوزراء للسير في الركب، وإلا فإن مصيره سيكون على المحك في الانتخابات القادمة، ومن ثم دفعت النظام المصري إلى الزاوية، فهل يمكن أن يحل الأزمة بمزيد من الغاز، أو إتمام صفقة السلاح المعلقة على حل أزمة ريجيني؟

لكن الأزمة كاشفة..

لعل أزمة ريجيني على فظاعتها عند الغرب، كما وصفها رئيس البرلمان الإيطالي، تعد سطرا في ورقة في دفاتر شهداء التعذيب في السجون المصرية. والتعذيب ليس كما صوره فيلم الكرنك لعلي بدرخان، أو رصدته بعض منظمات حقوق الإنسان، فالتعذيب في مصر تعجز عن وصفه الكلمات، ولن تلاحقه المنشورات. فكل يوم جديد من اختراع زبانية الأمن في مصر، لكن العبرة ليست في كشف أساليب أو كيف أو حتى كم التعذيب في مصر، وإنما في مفهوم الأمن عند النظام المصري والمختصر في أمن النظام وهيبته ودوام تخويف الشعب أو حتى كل من تطأ قدمه على هذه الأرض، وإرسال رسالة مفادها أن الأمن يسيطر على أنفاس العباد بعد أن سيطر على أرزاقهم.

أزمة ريجيني كاشفة عن شكل تعاطي النظام مع أزماته؛ بالتنازل عن مقدرات هذا الوطن من أجل شرعية يطلبها أو أزمة يحلها أو مغنم يطلبه. أزمة ريجيني كشفت الوجه الحقيقي لديمقراطية الغرب والمتمثلة في ماكرون الذي قلد رأس النظام أعلى وسام في الجمهورية الفرنسية، صنيعة ثورة الحرية والحقوق والعدالة، بعد أن فصل بين حقوق الإنسان ومصالح حكومته المترنحة، لكن أزمة ريجيني كشفت عما هو أهم من كل هذا.. كشفت عن درس في كيفية النضال السلمي الحقوقي وتحريك الشارع ما يحرك دوائر الحكم في وطن يرعى الإنسان ويعرف قيمته. أربع سنوات من النضال قادته سيدة مسنة وبضعة محامين ومدافعين عن حقوق الإنسان لينضم إليهم العشرات ثم المئات، لتصبح قضية رأي عام ثم تصبح ورقة ضغط سياسية ثم تدوّل القضية. هكذا يمكنك أن تتحرك، هكذا يمكنك أن تهزم جحافل الأمن وعناصر المخابرات وتفسد صفقات السلاح وعقود البترول، هكذا يمكنك أن تبطل سحر الرشاوى وتنتصر.. سننتصر.
التعليقات (0)