منذ قرابة نصف القرن تقريبا
وفي بدايات السبعينيات، عاشت
مصر وبعض دول المنطقة تجربة الصحوة الوطنية العامة
بين طلاب الجامعة والطبقة العمالية بصفة خاصة، كرد فعل حر ضد هزيمة العام 67 التي
سحقت الجيش واحتلت الأرض وأهانت الكرامة.
وفي نهاية نفس العقد أفرزت جيلا يغلب عليه
التوجه الإسلامي، لكنه كان تيارا عاما دون تحزب ولا تأطير.. تيارا ينتمي للإسلام
فكرا وعلما وسلوكا، ثم تكالبت عليه الجماعات القائمة والجمعيات القادمة فأدخلته
حظيرة التأطير والتحزب والانحياز والتقولب والانتماء الضيق.
وانشغلت الجماعات ببعضها البعض في تنافس على
هذا الجيل، فكانت كالشباك التي حصدت خير ما في بحر الوطن لتكون التبعية والانحياز
لا التحرر والانطلاق.
نعم العمل الجماعي له ميزات عدة، لكنه في
المجمل العام خاصة الإسلامي منه يعاني ثلاثة تحديات؛ أولها غياب الفكر النقدي
والذي يمثل القوة الدافعة لكل تغير وتطوير، وثانيها الفجوة بين القيم والإجراءات
خاصة في مجال المؤسسية واتخاذ القرار وتداول المواقع، وثالثها أجواء طاردة للإبداع
متمسكة بالأتباع.
عاشت التجربة عقودا دون تجديد ولا تطوير يناسب
طبيعة المراحل وحجم التحديات ومستوى الطموحات، عاشت سنوات طوالا لم توفر لنفسها
مقومات الجاهزية للمشاركة في السلطة التي تعارضها دون برامج أو بدائل، خاصة في
مجال وفرة المعلومات وكفاية الكفاءات وتمدد العلاقات وتماسك التحالفات.
نعم لم تكن وحدها المسؤولة عن هذه الندرة وهذا
النقص، فكان لنظام
الاستبداد والفساد والقمع الدور الأكبر في أجواء وأنماط التجريف
وحرمان المشاركة والممارسة والتدريب.
بعد هذه السنوات الطوال من تجربة بالفعل ثرية
ولها إيجابيات عدة، لكنها لم ترتق لتلبية احتياجات الواقع ولا طموحات المستقبل، بل
عندما أتيحت الفرص الذهبية بالتزامن مع ثورة يناير فشل الجميع في الاختبار الحرج:
الإسلاميون والليبراليون والعسكريون.. أخفق الجميع في اختبار النهوض بالوطن
والانتقال به إلى مصاف الدول المتحضرة، وكانت انتكاسة الانقلاب العسكري نتيجة
متوقعة وسط هذه الأجواء.
الخلاصة، أن مكونات المشهد برصيدها وتاريخها
لم تعد كافية، والواقع يؤكد ضرورة دخول كتلة مضافة على المشهد العام كنتيجة طبيعية
لتجربه أكثر من نصف قرن، لم تقدم فيه السلطة والجماعات والكيانات والأحزاب المطلوب
كاحتياج وليس كطموح، بالطبع لاعتبارات يتحمل مسؤولياتها الجميع، سلطة ومعارضة
وشعبا.
المنشود عدم اختزال العمل العام في مجال
الإصلاح والتغيير في الأحزاب والجماعات والكيانات مع أهميتها، لكن تعزيز الفضاء
والفراغ المتاح لقطاع أوسع من الشعب بهدف إنتاج تيار عام داعم للإصلاح؛ ليس محسوبا
على أحد حتى لا يكون مطالبا بسداد فواتير لا شأن له بها.
تيار عام ليس ضد السلطة بحدة المعارضة وليس
معها بولاء مناصريها، بمعنى أنه تيار لا يسعى ولا يصارع على السلطة، لكنه يسعى
لبناء المجتمع الذي يراقب السلطة ويصارع القيم والمفاهيم السلبية المهددة للبناء
المجتمعي.
تيار عام تنبغ فيه المهارات والقدرات
والإبداعات الفردية والجماعية في مجالات العمل العام، تيار يمثل مناخا حاضنا لكل
ما هو وطني ومجتمعي مميز ومبدع، بعيدا عن أطماع وصراعات السلطة وفرق الموالاة،
وبعيدا عن صدام وصراعات المعارضة وقيودها، وتجنبا للمعارك الصفرية التي تعيشها
بلدان المنطقة.
تيار عام يعوض النقص الحاد في الفراغات
والكفاءات اللازمة لأي مجتمع ويمثل نسبة كبيرة من قواه الحية، كفاءات لا يعطلها
التأطير والتنظيم والتحزب بلوائحه ونظمه المقيدة، تيار وطني عام منظم خارج
التنظيمات، لكنه متعاون معها في القواعد والكليات الوطنية والمجتمعية، تيار متنوع
متعدد الأفكار والخلفيات والأيديولوجيات، متوحد على جملة القواعد والكليات العامة
لوطن حر وشعب يحيا فيه بكرامة.
تيار مجتمعي لا يشتبك بالعمل الحزبي ولا يغادر
المجال السياسي، لا يصادم السلطة صدام المعارضة ولا يؤيدها تأييد الأنصار، ينشغل
ببناء المجتمع من خلال بناء الإنسان ودعم مؤسسات البناء والخدمات، ويعزز منظومة
القيم المجتمعية الإيجابية المرتكزة لثقافة ومعتقدات الشعب، يرسخ قيم ومهارات
التفكير العلمي والتواصل المجتمعي والتثبت والتدقيق والاستقلالية وعدم التبعية
لأحد، فالمنشود عظيم والمشوار طويل ومصر تستحق.