تصدير: "المسلم الجيد عندكم هو ذاك الذي لم يعد مسلما" (الباحث الفرنسي فرانسوا بورغا)
بعد ما أثارته الرسوم المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم (وموقف
فرنسا الرسمي المدافع عنها والمصرّ على سياسة التصعيد بدعوى الدفاع عن قيم الجمهورية ومواجهة
التطرف والانفصالية الإسلاموية) من ردود فعل شعبية ورسمية غاضبة في أغلب الدول الإسلامية، وبعد تكثف دعوات مقاطعة السلع الفرنسية وإمكانية تهديدها الجدي للاقتصاد الفرنسي المأزوم، وجد الرئيس
ماكرون نفسه مجبرا على مخاطبة المسلمين عبر القناة العربية الأكثر مصداقية ومتابعة، أي قناة الجزيرة القطرية.
وقد نزل ضيفا على برنامج "لقاء خاص"
محاولا توضيح الموقف الرسمي الفرنسي، بعيدا عما أسماه بالكذب والتحريف والتحريض الذي حرّف ذلك الموقف. فهل فعلا قامت ردود الفعل الشعبية والرسمية الإسلامية على "سوء فهم" عفوي أو حتى متعمّد؟ وهل نجح الرئيس الفرنسي في إثبات ذلك، أم إنه أكّد الانطباع العام لدى المسلمين بوجود أزمة عميقة يعيشها النموذج اللائكي الفرنسي، سواء أكان ذلك في سياساته الداخلية (خاصة سياسات إدماج المسلمين)، أم كان في
علاقته بالعالم الإسلامي وبمقدسات المسلمين وتطلعاتهم التحررية المشروعة ثقافيا واقتصاديا وسياسيا؟
بحكم المساحة المحدودة للمقال، فإننا لن نتطرق إلى كل ما جاء في حوار الرئيس الفرنسي ماكرون. ولكننا سنحاول أن نركّز على أهم الأفكار التي طرحها السيد ماكرون للدفاع عن موقف فرنسا وإدانة
دعوات المقاطعة الشعبية والرسمية، دون أن نغفل عن بيان المغالطات والتناقضات والمسكوت عنه واللامفكر فيه في تلك الأفكار، وما يستتبع ذلك من تهافت لمنطق ماكرون وما قد يؤدي إليه من نتائج عكسية، أي تقوية منطق المقاطعة وشرعنته بدل إضعافه والطعن في ما يؤسسه شعبيا ورسميا.
هل نحن فعلا أمام "سوء فهم"؟
ينطلق ماكرون من مقدمات كبرى أراد بسطها لتجاوز ما أسماه بـ"الكثير من سوء الفهم" الذي يتعلق باللائكية الفرنسية وقيم جمهوريتها من جهة أولى، وكذلك بعلاقة تلك القيم - من جهة ثانية - بالإسلام وبأنماط التدين في الفضاء الفرنسي تاريخيا وواقعيا. وهو يستعيد الصورة "المؤمثلة" لفرنسا ذات رسالة السلام العالمية، وصورة اللائكية المحايدة في الشأن الديني والتي تقف على مسافة واحدة من كل الأديان، ولكنها اللائكية ذاتها التي تحمي حرية التعبير وترفض التضييق عليها حتى عندما تصطدم بالمقدس الديني، سواء أكان مسيحيا أم يهوديا أم إسلاميا.
ومن نافلة القول أن نشير إلى أن هذه الصورة "المؤمثلة" لفرنسا هي صورة متخيلة في جزء كبير منها، خاصة في "رسالة السلام" الفرنسية التي لا يشهد لها التاريخ الاستعماري ولا ما بعده، وكذلك الشأن في الفهم "المدرسي"
للائكية الفرنسية التي ليست حيادية الدولة في الشأن الديني؛ بقدر ما هي تحول تلك الدولة إلي "ديانة وضعية" تنافس الأديان التقليدية في تشكيل الرؤية العامة للوجود الإنساني ومعانيه النهائية.
أما الوقوف على مسافة واحدة من كل الأديان فهو أمر لا يمكن الاعتراف بوجوده إلا "نظريا" في مستوى علاقة فرنسا بالمسلمين وبقضاياهم. فالرئيس الفرنسي الذي يدافع عن تجريم مراجعة التاريخ في ما يخص "المحرقة اليهودية" خلال الحرب العالمية الثانية، ولا يعتبره معاملة "تفضيلية" لليهود أو ضربا لحرية التفكير والتعبير، لا يرى موجبا لتخصيص المسلمين بقانون يجرّم الاعتداء على مقدساتهم، بل لا يرى أي موجب لإعادة بناء النموذج اللائكي رغم إقراره بأنه نموذج لم يتأسس على التعدد الثقافي (على عكس النموذج العلماني الأنجلوسكسوني)، ورغم إشارته الهامة إلى تاريخية هذا النموذج الذي انبنى في مرحلة لم يكن للمسلمين أي وجود واقعي في فرنسا، وهو ما يعني أن الرئيس الفرنسي "المعتز" باللائكية الفرنسية سيستهدف بمشروعه لمقاومة "الانفصالية" كل مظاهر فكرية أو سلوكية غير متوافقة مع النموذج اللائكي "أحادي الثقافة"، والقائم على آليات إدماج ترفض الاعتراف بالخصوصيات الثقافية لبعض مكوناته، خاصة المكون الإسلامي، لأنها ترى فيها تهديدا لقيم الجمهورية ولروح اللائكية ولهوية فرنسا الحداثية (هوية تجد جذورها في الثقافة اليهو- مسيحية والتراث الروماني الإغريقي رغم ظاهر العلمنة).
ماكرون بما هو امتداد للمنطق الاستعلائي الاستعماري
بمنطق استعلائي، لم يحاول الرئيس الفرنسي في محاورته على قناة الجزيرة أن يُعلّم الجمهور المسلم المستهدف قيمَ الجمهورية الفرنسية وأسس لائكيتها فقط، بل حاول أن يعلّمهم أيضا المعنى "الصحيح" والمقبول لدينهم، سواء في الفضاء الفرنسي أو حتى في الفضاء الإسلامي. ورغم إقراره بأنه ليس مختصا في العلوم الدينية، فإنه يبني شجبه لدعوات المقاطعة على التمييز المعروف بين "المسلم" و"الإسلاموي المتطرف"، ويدعي أنه لا يحارب الإسلام بل النزعة الانفصالية القائمة على ترويج قيم متعارضة مع قيم الجمهورية الفرنسية.
ورغم عدم إنكارنا لوجود خطابات إسلاموية متطرفة داخل الفضاء الفرنسي وخارجه، فإننا نلاحظ أن الهجمة على المسلمين في فرنسا قد استهدفتهم على أساس التعبيرات الدينية (الحجاب مثلا) والطعام الحلال، أو التعبيرات السياسية (دعم المقاومة الفلسطينية وانتقاد الكيان الصهيوني، والسياسات الفرنسية في العالم الإسلامي قبل ثورات الربيع العربي وبعدها).
إن ما يزعمه ماكرون (ومعه اليمين المتطرف) من حرب على النزعة الانفصالية في المجتمع الفرنسي؛ هي في الحقيقة حرب على التعدد الثقافي ورفض لقبول المختلف الذي لا يتماهى مع الصورة المثالية "للمسلم" المقبول في الفضاء اللائكي - داخل فرنسا وداخل كل الدول الفرنكفونية التي تبنت هذا الفهم للعلاقة بين الديني والسياسي - ذلك المسلم الذي يعيش تديّنا "مؤنثا"، أي محصورا في الفضاء المنزلي وبعيدا عن الفضاء/ الشأن العام.
ولشرعنة هذا الفهم اللائكي المتطرفة للإسلام، كان من الطبيعي أن يدافع ماكرون عن فكرة كون "الإسلام يعيش أزمة عميقة في كل أنحاء العالم". ولتخفيف صدمة المتلقي الإسلامي يوضح ماكرون أنه لا يعني الإسلام في ذاته، بل تعبيراته المتطرفة والعنيفة والانفصالية. ولكنّ ذلك لم يمنع ظهور تحيز ماكرون ضد الإسلام عندما اعتبر أن ما يقع في الإسلام الآن هو ظاهرة كونية مرّت بها كل الأديان، وهو ما يعني ضمنيا أنها تجاوزت أزماتها، بخلاف الإسلام.
هل الإسلام وحده في أزمة؟
قد يكون الإسلام فعلا في أزمة من جهة علاقة المسلمين بنصوصهم المرجعية وبواقعهم، ولكنّ حصر هذه الأزمة في الإسلام دون غيره من الأديان هو أمر لا يمكن التسليم به. فكيف يفسر ماكرون مثلا صمت فرنسا عن تعاظم النزعة الهندوسية المعادية للمسلمين في الهند؟ وكيف يفسر تحالف الرهبان البوذيين في مانيمار لإبادة مسلمي الروهنيجيا، وما أظهره ذلك التحالف من عنف خفي في ديانة يُروج لها أنصارها على أنها ديانة السلام؟ بل كيف يمكن لماكرون أن يفسر لنا الأسس التلمودية للكيان الصهيوني وسعي قادة هذا الكيان إلى بناء "دولة يهودية" خالصة و"كشير" أي خالصة لليهود دون غيرهم من الفلسطينيين، تلك الدولة المتعارضة تعارضا مطلقا مع أسس اللائكية الفرنسية وقيم جمهوريتها، ورغم ذلك دافعت عنها فرنسا وما زالت بكل ما أوتيت من قوة؟
في حواره على الجزيرة، دافع الرئيس الفرنسي عن اللائكية الفرنسية واعتبر أنها تعاني من سوء فهم داخل الفضاء الإسلامي. ورغم صحة هذا الحكم نسبيا، كان أولى بالرئيس الفرنسي أن يتحدث عن "سوء سمعة" هذه اللائكية المرتبط بالتراث الاستعماري لفرنسا ومواقفها من القضايا العربية والإسلامية، وبخيارات الدول "الوطنية" التي قامت على تلك اللائكية كما هو الشأن في الدول الفرنكفونية.
وقبل حديثه عن "أزمة الإسلام" وتبرئة باقي الأديان من هذه الأزمة، وقبل اتهام الداعين لمقاطعة البضائع الفرنسية بأنهم يلتقون موضوعيا مع "المتطرفين" (وهو خطاب اختزالي تسطيحي بيّن التهافت)، كان على الرئيس أن يطرح فرضية هي من "اللامفكر فيه" في الخطاب الفرنسي المهيمن: أزمة اللائكية الفرنسية التي تظهر في فشل نموذج الإدماج ورفض التعدد الثقافي والإصرار على إدارة تلك اللائكية بصورة تجعل المسلم الجيد - كما قال فرانسوا بورغا - هو ذلك المسلم الذي لم يعد مسلما (أو ذاك المسلم القابل بالتبعية الثقافية والاقتصادية لفرنسا في بلاده).
ولا شك عندنا في أن التلقي العفوي لحوار ماكرون لم يختلف كثيرا عن التحليلات الواردة في هذا المقال، وذلك لأن الرئيس ماكرون لم يأت إلى قناة الجزيرة ليقدم أفكارا جديدة، بل جاء ليدافع عن الأفكار ذاتها التي قادت إلى الأزمة، وهي الأفكار التي لا يبدو أن فرنسا ماكرون ستضعها في المدى المنظور على طاولة التفاوض مع مسلمي فرنسا وغيرهم، اللهم إلا إذا ما ألحقت المقاطعة الشعبية ضررا استراتيجيا حقيقيا بالمصالح الفرنسية في العالم الإسلامي.
twitter.com/adel_arabi21