أخبار ثقافية

حكايات أشعب: أشهر المتطفّلين في التراث

يوظّف الناس مثل هذه الحكايات على أنّها طُرف وقصص ساخرة لا تنتمي إلى منطق الفعل الحقيقيّ- تويتر
يوظّف الناس مثل هذه الحكايات على أنّها طُرف وقصص ساخرة لا تنتمي إلى منطق الفعل الحقيقيّ- تويتر

يتقدّم أشعب العديد من الشخصيات الفكاهيّة في التراث العربيّ، فهو أحد أشهر من ذُكِر في العصر العباسيّ بخفّة الظل والبخل والطمع والشره في حبّ الطعام إلى حدّ جعله في الذاكرة الجمعيّة العربيّة مضرب المثل في ذلك، فيُقال في المثل العربيّ "أطمع من أشعب"، وهذا المثل من السياقات القليلة التي تُوظّف فيها شخصيّتُه لأمرٍ جاد. 

ولعلّ مما يلفت النظر في التعامل الجمعيّ مع مثل هذه الشخصيّة هو أنّ الناس يتناقلون أخبارها وصفاتها وأفعالها ويسخرون منها وهم في الوقت نفسه يتقبّلونها على ما هي عليه، فذكر أشعب أو من ماثله من الشخصيات الفكاهيّة كأبي دُلامة لا يستدعي استحضار المواعظ الأخلاقيّة ولا ما يعبّر عن النفور من أبعاد الشخصيّات الشكليّة الجماليّة أو السلوكيّة الأخلاقيّة، فهو مادةٌ للضحك والمتعة بالدرجة الأولى. 

ويقبل المخيال العام حكاياتٍ عنه يصعب تصديقُها باعتبارها أمرا صحيحا على مستوى الحقيقة التاريخيّة، فعلى سبيل المثال، يُذكر أنّ أشعب أراد أن يطرد مجموعة من الصبية اجتمعوا حوله يلعبون وأخذوا يضايقونه، فقال لهم ليبعدهم عنه: هناك، في الجهة الأخرى من الطريق، جماعة من الناس يوزّعون الجوز والتمر على المارّة، فلمّا رآهم يركضون في الاتجاه الذي أشار إليه قام وركض معهم وقال في نفسه: لعلّ ذلك يكون صحيحا! 

هذه القصّة تجعله في غاية الغباء، فقد كذّب الكذبة وصدّقها على الفور، وهو نفسه الذي يحضر مجالس الأمراء وعلية القوم ليمتّعهم بذكائه وحسن عباراته. هذا التناقض ليس أمرا مهما في هذه المرويّات مقابل ما يقدّمه ذكرُه من ضحكٍ وتسلية.

 

يوظّف الناس مثل هذه الحكايات على أنّها طُرف وقصص ساخرة لا تنتمي إلى منطق الفعل الحقيقيّ، ولذلك قلّ من يُخضعها للتدقيق أو المراجعة الفاحصة، وكلّ ما يهمّ منها هو هذا الحسّ الساخر والمثير للضحك. 

 

وشبيه بذلك أنّه رأى رجلا يصنع طبقا، فأخذ يقترح عليه ويشجّعه ليوسّعه ويزيّنه أكثر، فالتفت إليه الرجل وقال له: ولماذا تريد ذلك وهو ليس لك؟ فقال أشعب: لعلّ من يشتريه منك يهديه إليّ، فيكون بهذا أنفع لي وأحسن!

 

اقرأ أيضا : فيلم علاء الدين.. القصة العربية كما ترويها هوليوود


ومثل هذه القصص تتجاوز عن المبادئ الأخلاقيّة التي تمنع التعليق على أشكال الآخرين وهيئاتهم، فوصْفُ شخص مثل أشعب بأنه كهيئة الشيطان ليس فيه عيبٌ أو ملامة.

 

ومن ذلك ما ورد من قصص أشعب أنّه كان خالَ الأصمعيّ الراوية المشهور في التراث العربيّ، فقيل إنّ الأصمعي أحضر هريسا ليطعم خاله أشعب، فأكل هذا الأخير كلّ ما في الطبق وكان كثيرا تعجز عنه جماعة من الرجال، وعاد الأصمعيّ إليه بعد سويعات، فرآه مصفرّ الوجه كثير العرق وقد ربط على رأسه قطعة من القماش، فناداه وقال له:" إنّي أرى أنّ الشيطان ليتمثّل على صورتك" (وثمة رواية أخرى لهذه الحكاية تجعلها مع عبد الله بن عمر بن عثمان بن عفان).   

ومما لا شكّ فيه أنّ مثل هذه الشخصية تتصف بفصاحة عالية وقدرة فريدة على حسن التخلّص وحضور البديهة والجواب السريع.

 

فيُذكر أنّ أشعب كان مسافرا من المدينة المنوّرة إلى مكّة، فغلبه الجوع حدّ الهلاك، فرأى جماعة من الناس يفترشون في ظلّ شجرة ويبسطون طعامهم، فأقبل عليهم دون معرفة له بهم، فقال لهم: 


السلام عليكم يا معشر اللئام، فرفعوا أبصارهم إليه وقالوا في نفس واحد: لا والله بل كرامٌ وأبناء كرام. فثنى رجله في الحال وافترش الأرض ودسّ نفسه بينهم وهو يقول: اللهم اجعلهم من الصادقين واجعلني من الكاذبين! ثم مدّ يده في القصعة التي أمامهم وهو يقول ماذا تأكلون يا قومُ؟ فأرادوا أن يصدّوا هجومه على الطعام، فقالوا: نأكل سمّا، لأننا قررنا أن نتخلّص من تلك الحياة ونموت.

 

فملأ أشعب فمَه بالطعام الذي في القصعة وهو يقول: والله إنّ الحياة بعدكم حرامٌ، دعوني أموت معكم، وراحت يده تجول في القصعة كما يجول الفارس في الميدان.

 

ثمّ التفتوا إليه وقال قائل منهم: يا رجل، هل عرفت منّا أحدا حتى تهجم على طعامنا هكذا؟ فأشار بإصبعه إلى ما في القصعة وقال: والله لقد عرفت هذا، وما عرفت عمري غيرَه! 

تشترك هذه الحكايات عبر ما تتصف به من الجرأة الحادة والفصاحة وحضور البديهة مع مرويّات التراث العربيّ عن التطفّل والبخل والظرف، كما تظهر في المقامات وكتاب البخلاء وكتاب المستطرف في كلّ فن مستظرف وسواها.

 

وكلّ هذه القصص تجعل ذكاء المتطفّلين والظرفاء سبيلا إلى الإضحاك وليس سببا كان من الممكن أن يوظّفه المتطفّلون ليكونوا من أصحاب المال والمكانة العالية في المجتمع. 

ولهذا يمكن النظر إلى هذه الشخصيّات على أنّها تعبير عن بحث المجتمع لإنشاء سرديّات مسليّة ومضحكة، وهي مختلفة تماما عن الطرفة التي تهدف إلى نقد اجتماعيّ أو سياسيّ أو أخلاقي، إنّها قصص تهدف أوّلا وأخيرا إلى الضحك. 

حتى النصيحة التي يقدّمها أشعب تخدم أهداف الضحك والمتعة، فنقرأ أن أحد المتطفّلين الجدد في مجالسهم طلب من أشعب أن يعينه على دخول عرس قريب منهم ويعلمه أن ينتفع أكثر من طعامهم، فقال له أشعب، أقبلُ ذلك على أن تطيعني دون سؤال أو كلام، فقبل وذهبا إلى العرس وقال لصاحبه: ادخل بجرأة ولا تلتفت إلى الحارس فيعرف أنك غير مدعو، واجعل نفسك من أهل العريس إذا طرح عليك أحد من أهل العروس السلام، أو من أهل العروس إذا سلّم عليك من هو من أهل العريس. ولمّا جاء الطعام قال أشعب لتلميذه: لا تأكل غير لقمة، وانتظر حتى يأتي الطبق الكبير، فلما جيء بالطبق قال لصاحبه ما يعني أقبل على الطعام واجعل كلّ لقمتين في مضغة واحدة، وإذا متّ وأنت تأكل من هذا فأنت شهيد! 

2
التعليقات (2)
محمد
السبت، 23-10-2021 04:22 ص
كان رجل جاء إلي حله وكان أناسها تذهب بالعشاء ليأكلوا سويه فأخذ يأكل كل ماتراه عينه وعندما جاء إلي أخر صينيه اقترح احد ان يجعلوه يترك هذه لكي يتعشوا قالوا له ياحاج في هذه فيها سم فقال إتعشوا وعشوا اولادكم معاكم
sandokan
الأربعاء، 28-10-2020 11:20 ص
مؤلفات في الفكاهة هناك عدد من المشاهير الذين ألفوا العديد من المؤلفات التي تزخر بها المكتبة العربية ونجحت في رسم البسمة في وجه القارئ العربي، منهم: الخطيب البغدادي صاحب كتاب «التطفيل»، والقيرواني صاحب «زهرة الآداب» في كتابه «جامع الجواهر في الملح والنوادر»، والثعالبي صاحب «يتيمة الدهّر» في كتابه «تنف الظرف»، والأبشيهي في كتابه «المستطرف»، وابن الجوزي في كتابه «أخبار الظراف والمتماجنين»، وهذه الكتب الفكاهية لا تخلو من فوائد علمية وأدبية، بل هي سجل صادق لتاريخنا السياسي والاجتماعي في زمانها .. يزخر الأدب العربي القديم بشخصيات فكاهية عرفت بخفة الدم والروح، منهم: أبودلامة، وأشعب، وأبوالعبر، وغيرهم من الشخصيات التي حظيت بشهرة واسعة طارت بهم للآفاق، وقادتهم لمجالسة الخلفاء والأمراء، والتكسب بشعرهم ونوادرهم التي احتضنتها كتب الأدب، وتناقلتها الأجيال على مر العصور، وباتت اليوم تسجل حضورًا ضمن رسائل وتغريدات وسائل التواصل الاجتماعي.. أشعب بن جبير ولد في سنة تسع من الهجرة، اشتهر بأنه كان رجلًا طفيليًا، يحب الطعام، ويشتّم أخبار الولائم، ويحضرها، ويأكل فيها بشراهة كبيرة لدرجة أنه كان يقول: ما زُفّت عروس إلا وظننت أنها ستزف إلى أشعب، وما أقيمت مأدبة إلا وظننت أنني سأدعى إليها. نقلت عنه كتب الأدب الكثير من النوادر التي تبيّن حرصه وجشعه وطمعه، ومنها: اجتمع عليه يومًا غلْمان من غلمان المدينة يعابثونه، وكان مَزَّاحًا ظريفًا مغنيًا، فآذاه الغِلْمة، فقال لهم‏:‏ إن في دار بني فلان عرسًا، فانْطَلقُوا إليه فهو أنْفَعُ لكم، فانْطَلَقُوا وتركوه. فلما مضوا قال‏:‏ لعل الذي قلتُ من ذلك حَقّ، فمضى في أثرهم نحو الموضع، فلم يجد شيئًا، وظفر به الغلمانُ هناك فآذوْه‏. ‏ ومن قصص أشعب أيضًا عندما جلس وهو صبي مع قوم يأكلون فبكى، فسألوه: لماذا تبكي؟ فقال: الطعام ساخن. فقالوا: دعه حتى يبرد. فقال: لكنكم لن تدعوه .. أبودلامة هو زند بن الجون، رجل كوفي خفيف الظل، نبغ في أيام بني العباس، وكانوا يقدمونه ويفضلونه ويستطيبون مجالسته ونوادره. قيل: إنه خرج يومًا مع المهدي ووزيره علي بن سليمان إلى الصيد، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب وأجريت الخيل، ورمى المهدي سهمًا فأصاب ظبيًا، ورمى علي بن سليمان فأصاب كلبًا فقتله، فقال أبو دلامة متوددًا إلى الخليفة: قد رمى المهدي ظبيًا شك بالسهم فؤاده وعلي بن سليمان رمى كلبًا فصاده فهنيئًا لهما كل امرئ يأكل زاده فضحك المهدي حتى كاد يسقط عن سرجه، وقال: صدق والله أبودلامة، وأمر له بجائزة .. أبوالعبر اسمه محمد بن أحمد بن عبدالله الهاشمي، كنيته أبوالعباس، بدّلها إلى أبي العِبَر، ثم كان يزيد بها في كل سنة حرفًا: «أبو العبر طرد طيل طليري بك بك بك». مارس العديد من الصناعات، وكان ماهرًا بها، لكنه لم يفلح في واحدة منها في الكسب بما يؤمّن له عيشة كريمة. كان وكما يقول: أخرج مبكِّرًا، وأجلس على الجسر، ومعي القلم والأوراق، فأكتب كلّ شيء أسمعه من كلام الذاهب والجائي والملاّحين والمُكارين حتى أملأ الدرج من الوجهين، ثم أقطعه عرضًا وطولًا وألصقه مخالفًا فيجيء منه كلام ليس في الدنيا أحمق منه .