لم تحظ قضية بالاهتمام
والمتابعة، والنقاش والتداول، والاتفاق والاختلاف، بقدر ما حظيت به
فلسطين، باعتبارها
قضية مركزية في العمل العربي المشترك، وعنواناً ثابتاً في جدول أعمال القمم
العربية، منذ الاجتماع الأول في "أنشاص" عام 1946 وحتى قمة تونس سنة
2019. بيد أن فلسطين على الرغم من استمرارها حيةً في الوجدان العربي، وحاضرة في
سياسات
الجامعة العربية، فقد ظل نصيبها من النجاح (على طريق التحرير، واسترداد
الأرض، واستعادة الحقوق المُغتصبة كاملة، أو على الأقل وفق ما أقرته الإرادة
الدولية في الكثير من القرارات والتوصيات الصادرة عن الأمم المتحدة والمنظمات
التابعة لها) موسوماً بالهزالة وضعف الفعالية والتأثير.
لذلك، لم تتوقف حملات نقد
أداء الجامعة بخصوص هذه القضية، والتشكيك في قدرتها على تحقيق طفرات في اتجاه حلّ مشكلة
الاحتلال الإسرائيلي الذي عمّر عقودا وما زال جاثما على صدور الفلسطينيين.
والحقيقة أن سجل الجامعة لم
يكن بكامله صفحات فشل، بل عرف لحظات قوة، ساعدت الفلسطينيين على امتلاك شرعية
التعبير عن أنفسهم (مؤتمر فاس 1974)، وحفّزتهم على التوافق على خطة سلام، تنطوي
على الحد الأدنى لبناء دولة وطنية مستقلة، ومعترف بها على حدود 1967 (مبادرة
السلام العربية المعلن عنها في قمة بيروت عام 2002)، إلا أن كل هذا لم يُسعف العرب
في أن يفُكّوا عُقدة الاستيطان الإسرائيلي في أرض فلسطين، فظل الاحتلال مستمراً، والأخطر
توسعت رقعته لتلتهم مساحات شاسعة مما تبقى من أراضي فلسطين التاريخية.
يعرف القارئ العربي،
والمتابع لتجربة الجامعة العربية، أن العلّة ليست في الجامعة كمنظمة إقليمية، هي
اليوم ، بدون منازع، أقدم تنظيم إقليمي في العالم، بل المشكلة، كل المشكلة، في أعضائها.
فالمشكل يكمن، كما يقال، في "النفوس لا في النصوص"، لأن الذي يُعطي قوة
وتأثيرا للقرارات والسياسات هم الأعضاء أنفسهم، وما يمتلكون من مؤهلات العمل الواعي
والمسؤول، والاقتدار في إدارة الأزمات، وكفاءة تحويل الخلافات والنزاعات إلى توافق
وبحث دؤوب عن المشترك.
فقد أثبتت دراسات عديدة حول
أداء الجامعة العربية، بشهادة باحثين من أبناء أعضائها، أن منسوب احترام قرارات
الجامعة في التطبيق والممارسة ضعيف، وفي أحيان كثيرة منعدم، وأن سياسات وخططاً تم تعطيها
لأسباب ذات مصادر ذاتية وشخصية أكثر منها موضوعية. كما كان للخارج دور في تكريس
الوهن الذي ألمّ بالجامعة العربية.
يُدرك الدارسون لمنظمات
التعاون الدولي والإقليمي أن حجر الزاوية في نجاح أي تنظيم يرتبط بالقيم المؤسسة
له، وفي صدارتها "وضوح الرؤية والمشروع"، و"واقعية الوسائل والأدوات
المعتمدة لإنجاز أهدافه"، وطبيعة الثقافة السياسية الموجهة لسلوك أعضائه،
وكلها قيم تعكس نوعية السياقات الوطنية والإقليمية والدولية التي تحكُم، وتتحكم في
أداء العمل الإقليمي المشترك. لذلك، ارتهنت القضية الفلسطينية بنوعية التغيرات
السياسية التي اخترقت المنطقة العربية، والتطورات التي طالت الجامعة العربية منذ
تأسيسها في ربيع 1945.
والواقع أن الجامعة عكست
بوضوح وصفاء حالة النظم السياسية العربية، وعبرت عن درجة وعي نخبها القائدة، كما
أبانت عن طبيعة العلاقات بين الدول ومجتمعاتها. فهكذا، مثلت الجامعة العربية خلال
عقد الخمسينيات وحتى ما بعد هزيمة 1967، أملا للمجتمعات العربية من أجل استكمال
تحرير أقطارها، والانطلاق في مسيرة بناء دولها الوطنية، فلم تكن موضوع تشكيك من
قبل غالبية الأعضاء، على الرغم من وجود احترازات وتخوفات، وأحيانا عداوات، حيال التيار
الأيديولوجي البارز في المنطقة العربية (الناصرية). بيد أن الجامعة العربية، ومن
خلالها القضية الفلسطينية، ستعرف تطورا مغايرا مع بداية سبعينيات القرن الماضي، تُوج
بتطبيع العلاقات بين مصر وإسرائيل (معاهدة السلام لعام 1979)، أعقبتها اتفاقية
وادي عربة الأردنية (1995)، واتفاقية 17 أيار/ مايو 1983 بين إسرائيل والحكومة
اللبنانية.
أرَّخت كل هذه المعاهدات
والاتفاقيات لمرحلة جديدة في القضية الفلسطينية والصراع العربي الإسرائيلي، يمكن
حصر عنوانها في البحث عن السلام والخروج من دائرة النزاع وحروب الاستنزاف.
والواقع أنه لم تدفع ثقافة
المرحلة الجديدة بالجامعة العربية إلى فقدان تأكيدها على ثوابت حل القضية
الفلسطينية، وفي مقدمتها تأسيس دولة وطنية مستقلة، وعودة اللاجئين، واعتبار القدس
الشرقية عاصمة لفلسطين، وهو ما بقي حاضرا في قرارات القمم العربية، وكرسته خطة
الملك عبد الله للسلام في بيروت عام 2002. بيد أن الجامعة العربية ستدخل مرحلة
ثالثة مع الألفية الجديدة، وتحديدا نهاية عشريتها الأولى (2011 وما بعد)، حين ستخترق
المنطقة العربية موجة من الحراك الاجتماعي، أطاح بنظم، وهزّ استقرار أخرى، ودفع بأقطار
إلى إدخال إصلاحات دستورية وسياسية، وبقيت دول فليلة بدون أن تمسها رياح هذا
الحراك. وقد تضافر مع هذا التطور تغير نوعي في العالم بصعود قيادات يمينية وشعوبية،
كان لها بالغ التأثير على أولويات القضايا العربية، ومنها قضية فلسطين.
يمكنني الجزم بأن أسوأ
مرحلة للجامعة العربية هي الحقبة التي سادت خلال الحراك العربي، فقد فقدت الجامعة
العربية ما تبقى لها من عناصر الفعل والبقاء، وبدت شبه
مستقيلة مما يجري في المجال العربي. ومن هنا نفهم لماذا بقي "بيت العرب
المشترك"، أي الجامعة، شبه مستقيل من حركة
التطبيع مع إسرائيل، التي ابتدأت
مع دولتي الإمارات والبحرين، ولا يُعرف على وجه التحديد إلى أين ستصل، وهل لها
حظوظ في الوصول..