نستطيع أن نؤكد أن المشروع الفكري للحكيم البشري "المستشار طارق البشري" هو قواعد التأسيس للجماعة الوطنية: إنشاءً واستقرارًا واستمرارًا، هذا المشروع حاول دومًا أن يرأب الصدع في هذه الجماعة سواء على مستوى الفكر والممارسة فأكد أن للسياسة بنية تحتية يجب أن تتوافر وأن للجماعة الوطنية شروطًا تتعلق بإقامة شبكة علاقاتها الاجتماعية وصياغة نسيجها الاجتماعي ضمن صياغات فعّل فيها أدواره المتساندة والمتكافلة، ليؤصل معاني هذا المشروع وقدراته وتفعيله ومستلزماته من الحوار وتجنب الحروب الأهلية الفكرية وصراع المرجعيات، وتأسيس المعايير والموازين التي يجب أن تملكها الجماعة الوطنية بما تحمله من رؤية فكرية وسلوكيات تطبيقية.
والحكيم البشري لا يغفل ظاهرة التراجع في بعض جوانب حياتنا وفي دوائر الرأي العام، الذي يشيع مناخ غير صحي في خطاب سقيم عقيم، وبروز حالة من التفكك، نتيجة ضعف الانتماء الوطني، مما يدفع بعض الأطراف لاستدعاء عشيرتها أو مكان ولادتها أو دينها كانتماء بديل. في ظل المناخ تخرج الحكمة من قلم الحكيم، حكمة ميزان الجماعة الوطنية: "إن كانت ثمة قاعدة يمكن استخلاصها من وقائع تاريخ مصر المعاصر، من زاوية تشكل الجماعة الوطنية واندراج مكوناتها المتعددة والمتنوعة في هذا التشكل، فإن الجماعة الوطنية تتضام عناصرها وتتماسك قواها بقدر نهوضها الجمعي للدفاع عن مخاطر الخارج عليها، والزود عن أرضها، وعن ثوابتها الفكرية وعن مصالحها السياسية والاقتصادية بعيدة المدى.
وأن مخاطر الخارج عليها تعمل فيما تعمل على تفكيك هذا التماسك فنحن شعوب قامت جماعتها الوطنية وتماسكت في معارك الدفاع عن النفس وعن التراث الجماعي في مواجهة مخاطر الخارج. وأن تيار العزلة ينمو مع زيادة النفوذ الخارجي، وتيار الاندماج ينمو مع قوة المواجهة الوطنية لهذا النفوذ الخارجي" فماذا عن حكمة جامعية المواطنة لهذا النفوذ الخارجي؟: ".. أن الجماعة الوطنية في مصر متشكلة ومتبلورة وهي تقوم على أسس فكرية ونظرية وعلى سلوك عملي، وتعتمد على المساواة والمشاركة في الحقوق والواجبات.. على مبدأي الاستقلال السياسي والديمقراطية وعلى منهج المساواة... وحكمة التاريخ في إسناد تلك الحكمة التأسيسية حول الجماعة الوطنية ؟ ".. نحن نعلم من مطالعة تاريخ العصر الحديث لأممنا وشعوبنا، أن الجماعات الوطنية فيها بنيت وامتزجت وتضامت صفوفها في جهادها وكفاحها ضد الاستعمار وضد النفوذ الأجنبي وهي باقية على هذا التوجه.."
إن حيوية المجتمع وقدرته على تنويع حركته وعلى تغيير أوضاعه مع الظروف المتغيرة وقدرته على تكوين استجاباته وفقًا لوجوه المواجهة وألوانها التي تفرض عليه، كل ذلك يتوقف على مدى فاعلية وحدات الانتماء التي تربط أفراده في كل هذه الأنواع والأجناس من الجماعات المتداخلة التي تبني للمجتمع عروته الوثقي، لو كانت المصرية ضعيفة لما استطاعت أن تقاوم الإنجليزية عندما انكسر الوعاء الإسلامي الأشمل، أي لما استطاعت أن تشكل وعاءً أخص يكون قادرًا على الحياة والمواجهة. ولو كانت الإسلامية والعروبة غائبتين لما استطعنا أن نستمد فيما نستهدفه الآن من مواجهات عالمية كبرى تثبت تجربتنا أننا نقدم مثالاً باقيًا من أمثلة الصمود والمقاومة على مدى عشرات السنين من التاريخ المعاصر، وأن ليونة التحول من وضع مواجهة إلى وضع آخر تتوقف على مدى حيوية هذه الوحدات وفاعليتها، وكل ما هو مطلوب ألا نضعف أيًّا من هذه الوحدات لحساب الوحدات الأخرى ولكن أن نضعها كلها ونعيد ترتبيها؛ بما يجعلها يقوي بعضها البعض، ويغذي بعضها البعض، ويدعم بعضها البعض. الجماعات الفرعية هي مولدات الحركة للجماعة كلها في صورها الشاملة، ونحن نخطئ أيما خطأ –ولقد أخطأنا- عندما نظرنا إلى وحدات الانتماء العامة بوصفها نوعًا من أنواع أجولة الحبوب تحمل حبات منفصلا كل منها عن الأخرى، وتضم وحدات متماثلة على غير تنوع ولا تدرج ولا تفاعل بين بعضها البعض.
إن القومية لا تضم أفرادًا، وإن الوحدة الإسلامية لا تضم أفرادًا، وأن المصرية والعراقية أو المغربية لا تضم أيضًا أفرادًا، إنما تضم جماعات تمثل وحدات انتماء تقدر كل منها على الانبعاث الذاتي وتدفق الحركة من داخلها وبالمولدات الذاتية الخاصة بها. ونحن نخطئ.. عندما ننظر إلى مجتمعاتنا بذات الرؤية والتصور الذي ساد لدينا عن مجتمعات الغرب عمومًا. وفي إطار هذا الفقه من أستاذنا البشري لدوائر الانتماء ضمن سياق ظواهرنا المختلفة التي نعيشها أكد على نقطتين:
الأولى: أن الكثير من مؤسسات وحدات الانتماء الفرعي قد دمرت، إما لأن الهيمنة الغربية اقتضت تدميرنا، أو لأننا نحن ضربنا فيها معاول الهدم لأننا نظرنا إليها من منظور التقلد للغرب. ومن منظور ما فهمناه عن المجتمع الغربي. فرأينا في مؤسساتنا وحدات انتمائنا الفرعية لا كونها موضوعًا للإصلاح والتجديد ولكنها عقبات في وجه الإصلاح والتجديد، فهدمنا "تجديدًا" ودمرنا "إصلاحًا". ثم لما شيدنا على أنساق الغرب ما شيدنا لم نجد من هذه التكوينات الفرعية ما يمكن من الأعمال النافعة للمؤسسات الجديدة، ..لذلك كان من نتائج هذه الفترة حدوث نوع من الانفصام بين حركة الإصلاح المؤسسي وحركة الإصلاح الفكري، ونوع من الازدواج بين الأبنية التقليدية نظمًا وفكرًا، وبين الأبنية الحديثة نظمًا وفكرًا، وبين الأبنية الحديثة نظمًا وفكرًا، فصار القديم أبتر مقطوعًا؛ لم يفض إلى جديد من نوعه أو من مادته ومائه، وصار الجديد أجنبيّا لقيطًا، وفد من نسق عقيدي آخر ومن أوضاع اجتماعية وتاريخية مختلفة، وما إن حل القرن العشرين حتى كانت البيئة الاجتماعية والفكرية قد انصدعت بين قرن أبتر وقرن لقيط أعقبه. وهذا ما ورثناه حتى اليوم وما تواجهه مجتمعاتنا في نظمها السياسية والاجتماعية بمجتمع مصدوع عليها أن تلأم صدعه، وأن تجدد قديمة وتؤصل حديثه.
والثانية: أننا نظرنا في النظام الغربي المأخوذ عنه في صياغاته الفلسفية التي تبدأ بالفرد ثم تقفز إلى التصور الكلي العام، ولقد جرى في الغرب إعلاء القيمة الفردية لتحرير الفرد من بعض المؤسسات الضاغطة والمانعة من انتقاله إلى مؤسسات جمعية أخرى تولدت في المجتمع نفسه، تحريره من ربقة القنانة وإطلاق حريته في الاقتراب من وحدات الانتماء التي ولدت من رحم المجتمع نفسه في المدن والمصانع والجمعيات والنقابات. فكان التركيز على الفردية لا لكي يتناثر الناس أفرادًا ولكن لكي تنفتح أمامهم مسالك الانجذاب والانضمام إلى ما يرون من وحدات أخرى. أما نحن فقد تصورنا المجتمع من خلال علاقة الفرد المنفرد بالجماعة القومية وبالدولة وبالحزب، هكذا مباشرة، وهكذا ضربة لازب، دون اهتمام بالحلقات الوسيطة والوحدات المتداخلة المتشابكة في شتى المجالات.
ومتى صار الشعب أفرادًا فقد صار الحاكم فردا لزوال التكوينات الضاغطة، ولأنه لا توجد وقتها إلا وحدة الانتماء الأعم التي تشخص فيه بذاته منفردًا عما عداه.
التربية على المواطنة عبر تحديد هذا المفهوم واندراجه في الجماعة الوطنية كان هم الحكيم البشري واهتمامه، وهو مشروع يمكن أن تنبني قواعده وسننه فيما لو أرادنا أن نفعل حركة أنساقنا التربوية؛ التربية على المواطنة لدى البشري ليست مواطنة التربية المدنية التي تسعى تشكيل ما أسمي بـ "المواطن العالمي"، في محاولة فك ارتباطه بوطنه من خلال عولمة مأزومة وسكنتها الفيروسات على ما أشرنا في المقال السابق، المواطنة –لدى البشري- لا تتم إلا عبر الوطن، وهي صد العوادي والاستبداد، ومقاومة لكل صنوف العدوان من الخارج. إنه درس الجماعة الوطنية والمواطنة عبر وحدات الانتماء حينما يشكل مفهوم المواطنة ومقتضياته ووجهاته؛ بوصلة تلك الجماعة الوطنية وقبلتها.