هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
* رجُلٌ من الدرجة الثانية!
"وكان الزين على البئر في وسط البلد يملأ أوعية النساء بالماء ويضاحكهن كعادته. فتجمهر حوله الأطفال وأخذوا ينشدون "الزين عرَّس .. الزين عرَّس" فكان يرميهم بالحجارة، ويجُرُّ ثوبَ فتاةٍ مرّة، ومرّة يهمز امرأة في وسطها، والأطفال يضحكون، والنساء يتصارخن ويضحكن وتعلو فوق ضحكهم جميعًا الضحكة التي أصبحت جزءًا من البلد منذ أن وُلِد الزين".
هكذا أنزلَ (الطيب صالح) بطلَ روايتِه منذ الصفحات الأولى منزلةً اجتماعيةً غريبةً وفريدة، فهو رجلٌ من الدرجة الثانية – إن جاز التعبير – لا يتمتع في الأحوال العاديّة بما يتمتع به رجال مجتمع البلدة من مهابةٍ بين النساء والأطفال (الذين يأتون في قاع الهرم الاجتماعي في البلدة)، ولذا يتجرّأ عليه الأطفال، ويُسمَح له من الدخول إلى مجتمع النساء ما يَحرُمُ بحُكم التقاليد على غيره من الرِّجال.
ويبسُط لنا المؤلِّف في مواضعَ متفرقةٍ من روايته الأسبابَ الخِلقيّة والخُلُقيّة التي حدّدَت لبطلِه تلك المنزلة (المتدنّية) الفريدة. فمِن ناحيةٍ، هناك الصفات الخِلقيّة: "كبر وليس في فمه غير سِنَّين"، "ناتئ عظام الوجنتين والفكَّين وتحت العينين"، "عيناه صغيرتان محمرّتان دائما، محجراهما غائران مثل كهفين في وجهه، ولم يكن على وجهه شعر إطلاقا. لم تكن له حواجب ولا أجفان، وقد بلغ مبلغ الرجال وليس له لحية أو شارب..
تحت هذا الوجه رقبة طويلة (من بين الألقاب التي أطلقها الصبيان على الزين: الزرافة). الذراعان طويلتان كذراعي القرد. اليدان غليظتان. أصابع مسحوبة تنتهي بأظافر مستطيلة حادّة، فالزين لا يقلّم أظافره أبدا. الصدر مجوَّف والظَّهر محدودِب قليلا. الساقان طويلتان رقيقتان كساقي الكركي".. إلخ.
في الحقيقة، بغضّ النظَر عن العلامات المتّصلة بالشَّعر، فإنّ العلامات الهيكلية التي أوردَها (الطيب صالح) ضمن هذه الأوصاف تقرّب بطلَنا من تشخيص متلازمة مارفان Marfan's Syndrome وإن كان هناك فارقٌ جوهريٌّ بين مرضى (مارفان) و(الزين)، حيث يعاني مرضى مارفان - نتيجة ضعف الأنسجة الضامّة في أجسادهم بفعل طفرةٍ جينيّةٍ حديثةٍ أو موروثةٍ – مضاعفاتٍ متعددةً، تبدأ بالضعف العامّ المزمن، وتصل إلى انزلاق الصمام الميترالي للقلب وتمدُّد الأورطي إلى غير ذلك من مضاعفات متباينة الخطورة.
أمّا ما نعرفه عن الزين فهو أنه قويّ الجسد رغم نحوله البادي للعِيان، فمتى وُعِدَ بالزواج من فتاةٍ يتمناها، "وَجَد ضربات معوله في الأرض تزداد قوة وتتابُعًا"، أو يستغلُّه والِدُ الفتاة الموعودة، فيسخِّرُه "في أعمال كثيرة شاقّة يعجز عنها الجِنّ. كُنتَ ترى الزين العاشق يحمل جوز الماء على ظهره في عِزّ الظُّهر، في حَرّ تئنّ منه الحجارة، مهرولاً هنا وهناك، يسقي جنينة العُمدة، وتراه ماسكًا بفأسٍ أضخمَ منه يقطع شجرةً أو يكسر حطَبًا، وتراه منهمكًا يجمع العلَف لحمير العُمدة".
أمّا حين يتملّكُه الغضب فنراه "قد أمسك بالرَّجُل ورفعه في الهواء بعنف ثم رماه على الأرض ثم شدّه من رقبته" ويعقّب مُبدعُ شخصيّته "تدفقت في جسم الزين النحيل قوّة مريعة جبارة لا طاقة لأحدٍ بها. أهل البلد جميعًا يعرفون هذه القوة الرهيبة ويهابونها، وأهل الزين يبذلون جهدهم حتى لا يستعملها الزين ضد أحَد. إنهم يرتعدون كلما ذكروا أنه أمسك مرّةً بقَرنَي ثَورٍ جامحٍ استفزّه في الحقل، ورفعه عن الأرض كأنه حزمة قَشّ ثم ألقاه أرضًا مهشَّمَ العِظام، وكيف أنه في فورةٍ من فورات حماسِه قلع شجرة سنط من جذورها كأنها عُودُ ذُرة!" إذَن فهو ليس مريضًا بمارفان. إنها محض سِماتٍ خِلقيّةٍ اجتمعَت فيه لتُفرِدَه مِن بين الناس وتكرِّسَ غُربَتَه بينهم.
أمّا الأسباب الخلُقيّة لمنزلته الفريدة، تلك التي لم نتحدث عنها إلى الآن، فلعلَّ أوَّلَها ضحكُه الدائم. الزين يتقبل سخرية الآخَرين منه بصدرٍ رحبٍ، ويعابث الجميع ويخلق الضحِك في أي موقِف، حتى إنه حين يقرر أن يحكي لرفاقِه حكاية أحد جُروح قدمه، فيستفزّه صديقه (محجوب) بقولِه: "مشيت تسرق فضربوك بغصن شوك"، يقع هذا القول موقعًا حسَنًا في نفس الزين "فيستلقي على قفاه ضاحكًا، ثم يضرب الأرض بيديه ويرفع رِجلَيه في الهواء ويظل يضحك بطريقته الفذَّة، ذلك الضحك الغريب الذي يُشبه نهيق الحِمار".
كما يؤصّل المؤلّف لفَرادة الضحك وكونه ركنًا أساسيًّا في تكوين شخصية بطله، فيقول: "يولد الأطفال فيستقبلون الحياة بالصريخ، ولكن يُروى أن الزين – والعهدة على أمه والنساء اللائي حضَرن ولادتَها – أولَ ما مسَّ الأرضَ انفجرَ ضاحكا. وظلَّ هكذا طول حياته".
هذا التأصيلُ يضعُنا أمامَ فَرادَةٍ غريبة، فالزين مخلوقٌ أراد له القدَر أن يكون ضاحكًا مُضحِكًا منذ مجيئه إلى الدنيا. ولعلَّ البيئة الاجتماعيّة الإسلاميّة تجعلنا نتذكر هنا على الفور تلك الأخبار الضعيفة والموضوعة عن صفات ميلاد النبي صلى الله عليه وسلّم، ومنها أنه حين وَلَدَته أُمُّه اعتمدَ على يَدِه رافعًا رأسَه إلى السماء، ومنها: أنه صلى الله عليه وسلَّمَ وُلِد مختونًا مقطوع السُّرّة إلى غير ذلك من الصفات التي تكرّس فكرة النبُوّة وفرادة المولود. في مقابلِ ذلك، يبدو (الزين) صاحب رسالةٍ تتعلّق بالإضحاك.
* الإضحاكُ من الحُبّ
و(الزين) إلى ذلك موهوبٌ مواهبَ إلهيّةً لعلَّ ألطفَها شكلٌ من أشكال الدَّيمومة! وذلك أنّ مبدعَ شخصيتِه يصفه قائلاً: "وكان الزين يَخرُجُ من كل قصة حُبٍّ كما دخل، لا يبدو عليه تغييرٌ ما. ضحكته هي هي لا تتغير، وعبثه لا يقلّ بحال، وساقاه لا تكلاّن عن حمل جسمه إلى أطراف البلد". هكذا تبدو شخصيّة الزين حصينةً أمام التغيُّرات البشريّة، ولا تكتنفُه التغيُّراتُ المرتبطة بالانتماء إلى الإنسانيّة إلاّ حينما يُحِبّ، فمحض الوقوع المتكرر في الحُبّ هو التغيُّر الوحيد الذي يطرأ عليه بين الحين والحين. إلاّ أنّ المؤلّف يعود فيتساءل عن طبيعة تلك العاطفة الطيّارة التي تطرأ على بطلِه، فيقول: "ينظر الزين بعينيه الصغيرتين كعيني الفأر، القابعتين في محجِرَين غائرَين، إلى الفتاة الجميلة، فيصيبُه منها شيءٌ – لعلَّه حُبٌّ؟ - وينوءُ قلبُه الأبكمُ بهذا الحُبّ... إلخ".
هنا لا يجيب المؤلّف إجابةً قاطعةً بخصوص كُنه تلك العاطفة. ربما يستنكر قطاعٌ من القُرّاء أنّ هذا هو الحُبّ، طالما أنّ كُلّ قصّةٍ يدخلُها الزين تنتهي دون أن تؤثِّرَ فيه، وطالما أنّ العاطفةَ التي تشُبُّ في قلب الزين لا تشُبُّ إلا من نظرةٍ عابرة.
إلاّ أنّ تعليق الحُكم الذي يتركنا له (الطيب صالح) يجعلُنا نُعيدُ حساباتِنا بشأن كُنه الحُبّ، فرُبّما لا يَعدو الحُبُّ بين رجُلٍ وامرأةٍ أن يكون شيئًا بهذه السطحية والقابليّة العبثيّة للتكرار السريع كما في حالة الزين.
في تقديري أنّ هذا التكرار العبثيّ لاشتعال الحُبّ في قلب الزين هو جزءٌ من رسالتِه التي وُلِدَ ليُبلِغَها للناس، أعني أن يُضحِكَهم – ضِمنَ ما يُضحكُهم – مِن محض تقديس الحُبّ وتوثينِه، فها هو ذا يرفع عقيرتَه كلَّ حِينٍ بجُملتِه المعهودة "عوك يا أهل الحلّة. يا ناس البلد. عزّة بنت العمدة كاتلالها كتيل. الزين مكتول في حوش العمدة"، مع تغيير اسم المحبوبة (عزّة) وصفة أبيها (العُمدة) في كُلّ قصّةٍ جديدة، ثُمّ إنّ كل القصص تنتهي نفس النهاية، فتغزُّل الزين بالمحبوبة الجديدة يُؤتي ثمارَه، حيث يبدأ اسمُها يتردد بين طالبي الزواج إلى أن يتقدّم لها أحدُهم ويظفرَ بها عروسًا، وحينئذٍ كما يخبرنا المؤلِّف: "يُقامُ العُرس، تفتش عن الزين، فتجده إمّا مُسَخَّرًا يملأ القُلَل والأزيار بالماء أو واقفًا في منتصف الساحة عاريَ الصدر، في يده فأسٌ يكسر به الحطب، أو بين النساء في المطبخ يعابثهنّ، ويعطينه من آنٍ لآخر قِطَعًا من الطعام يملأ بها فمه، وما يفتأ يضحك ضحكتَه التي تشبه نهيق الحمار".
ثُمّ إنّ (الطيب صالح) يصرّح بشكلٍ من أشكال المهمة الرسوليّة المنوطة ببطلِه خلالَ قصص حُبِّه المتكررة، فيقول: "كان الحُبّ يصيب قلبَه أول ما يصيب، ثم ما يلبث أن ينتقل منه إلى قلب غيره، فكأنه سمسارٌ أو دلاّلٌ أو ساعي بريد". هكذا تبدو المهمة الأوضح للزين بين الناس هي إحداث رواج سُوق مَن يُعجَبُ بهنَّ من فتيات البلدة (فكأنه رسولٌ للزواج)، وتبقى المهمّة الألطف الأخفَى هي إضحاك الناس من هالة القداسة التي يُحيطُون بها الحُبّ، كما يقول المؤلف في موضعٍ آخر: "وفجأة كأنما الناس كلُّهم في آنٍ واحدٍ أدركوا التباين المضحك بين هيئة الزين وهو واقفٌ هنالك كأنه جلد معزة جاف، وبين عزّة بنت العُمدة، فانفجروا ضاحكِين".
* المودّة والرحمة مقابل الحب- الفطرة مقابل الحضارة
وعلى الطرف الآخَر، يتسلل مفهوم (المودّة والرحمة) بديلاً أنجَحَ وأبقى وأرسخَ للحُبّ من خلال علاقة الزين بـ(نعمة) بنت (الحاج إبراهيم)، فهي تلك الفتاة التي وصفها مبدعُها بالجِدّيّة الصارمة، حتى إنها أجبرَت أباها على إلحاقِها بالكُتّاب لتتلقّى القرآن وتتعلم القراءة والكتابة، فأصبحَت البنت الوحيدة بين صبيان الكُتّاب، وهي الوحيدةُ التي يخجل الزين من معابثتها ولا يجرؤ على ذلك، وهي التي يتبادر إلى ذهنِها دائمًا – على كثرة مَن ترفضُهم من الخاطِبين – أنّ نصيبَها سيأتيها، وأنه ربما كان (الزين) نفسَه، حتى يَقسِمَ الله لهما بالزواج بالفعل.
وخلال حديثِ (نعمة) لنفسِها، يخطر الزين ببالِها عِرسًا "فتحس إحساسًا دافئًا، من فصيلة الشعور الذي تحسه الأم نحو أبنائها، ويمتزج بهذا الإحساس شعور آخر بالشفقة. يخطر الزين على بالها كطفل يتيم في حاجة إلى الرعاية". ويقول عنها المؤلف في موضعٍ آخر، موحيًا بقوّةٍ بتحيُّزه لبديل (المودة والرحمة): "وتشعر بقلبها يعتصره الحزن وهي تقرأ عن أيوب وتشعر بنشوة عظيمة حين تصل إلى الآية "وآتيناهُ أهلَه ومِثلَهم معهم رحمةً مِن عندِنا"، وتتخيل (رحمة) امرأةً رائعةَ الحُسن متفانيةً في خدمة زوجِها، وتتمنى لو أنَّ أهلَها أسموها رحمة".
وفي تقديري أنّ مسألة الحُبّ باعتباره وثنًا في مقابل المودّة والرحمة، هي ثيمةٌ مهمّةٌ بالنسبة لأستاذنا الطيب صالح، لاسيّما أنها كانت –في رأيي– حاضرةً حضورًا قويًّا كذلك في روايته العلامة (موسم الهجرة إلى الشمال)، لاسيّما مِن خلالِ مقارنة علاقات (مصطفى سعيد) بنساء أوربّا، بعلاقته بزوجتِه الأخيرة (حسنة بنت محمود).
كما نلمس في (عُرس الزين) صدىً لموضوعٍ آخر لا يقلُّ محوريّةً في فكر (الطيب صالح) – وإن كان أبرز في (موسم الهجرة) – وهو موضوع (الفطرة في مقابل الحضارة). في (موسم الهجرة) هناك انحياز المؤلّف إلى الصديق (محجوب) الذي توقّف عن رحلة التعليم المدرسي بعد أن ألَمَّ بالقراءة والكتابة والقرآن والحساب ممّا يراه ضروريًّا لتستقيم حياتُه كمُزارع. وهنا نجد هذا الانحياز واضحًا جدًّا، وبنفس الكلمات تقريبًا مع (نعمة)، حيث يقول: "كان أخوها الذي يكبُرها بعامَين يحثُّها على مواصلة التعليم في المدارس ويقول لها (يمكن تبقي دكتورة ولا محامية). ولكنها لم تكن تؤمن بذلك النوع من التعليم. تقول لأخيها وعلى وجهها ذلك القناع الكثيف من الوقار: (التعليم في المدارس كله طرطشة. كفاية القراية والكتابة ومعرفة القرآن وفرايض الصلاة)".
والخلاصة أنّ كاتبَنا الراحل ينحاز في وضوحٍ للفطرة في مقابل الحضارة.
*الروحانيُّ والفقيه
ولعلّ لهذا الانحياز مظهرًا آخر هنا، هو صداقة (الزين) و(الحنين) الناسك الغامض الذي يتعبّد وسط الناس ستة أشهر ثم يختفي في الصحراء ستة أشهرٍ ولا أحد يدري على ماذا يقتات ولا بماذا يتزوّد. نحن نعلم من سلوك الزين أنه يَجبُر خواطر المكسورين والمساكين ويحنو عليهم، فله صداقاتٌ مع أُناسٍ يأنف الآخَرون (من رجال الدرجة الأولى) من مصادقتهم، مثل (عشمانة الطرشاء – موسى الأعرج – بخيت الذي وُلِد مشوَّهًا، ليست له شفةٌ عليا وجنبه الأيسر مشلول). فكأنّه في جزءٍ مِن حياتِه مصداقٌ لدعاء النبي "اللهم إني أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ، وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ." ولا سيّما الفقرة الأخيرة من الدعاء! وهو – إضافةً إلى مهمته الرسولية التي أسلفنا الحديثَ عنها – يمثّل جانبًا روحانيًّا من الدِّين، خاصةً أنّ طبيعة صداقته بالوليّ (الحنين) سِرّيّةٌ تمامًا، ولا أحد يعرف ما يدور بينهما من أحاديث "ويحاول أهل البلد أن يعرفوا من الزين سر الصداقة التي بينه وبين الحنين فلا يزيد على قوله (الحنين راجل مبروك)".
أضف إلى ذلك أن الزين هو الإنسان الوحيد في البلد الذي "يأنس إليه الحنين ويهَشُّ له ويتحدث معه". هكذا، تبدو علاقتهما مفعمةً بالأسرار التي تَخفى حتى على الراوي العليم نفسِه!
والمهم أن هاتين الشخصيتين تقفان في مقابل إمام الجامع الذي لا يحبه أهل البلدة رغم اعترافهم بعِلمِه الشرعي الواسع وقضائه عشرة أعوامٍ في الأزهر. هذا الإمام الذي يعارض زواج (الزين) من (نعمة)، وحتى بعد إنفاذ الزواج يجاهر أمام الناس بما كان من معارضتِه له! إنّ (الزين) لم يدخل المسجد في حياته، وحين يكاد يقتل (سيفَ الدين) انتقامًا من الضربة التي كالها له فشجَّ بها رأسه في فرح أخته، لا ينقذ (سيفَ الدين) من غضب (الزين) إلا (الحنين).
ومن الإشارات اللطيفة في الرواية، أنّ هذا الحادث كان نقطة تحوُّل في حياة (سيف الدين) من الفسق والغواية إلى التقوى وتحمُّل المسئوليّة، حتى إنّ أصدقاء الزين يتداولون فيما بينهم أنّ (الحنين) كان السبب في هداية سيف الدين ودخوله صفّ إمام الجامع. واللطيف في هذه الإشارة أنّ (الطيب صالح) جعل لكلّ شخصٍ من أشخاص روايته مقامًا روحيًّا، فسيف الدين الفظّ الغليظ حين يهتدي يأخذ صفّ إمام الجامع المشغول بالظاهر، وممثل الجانب النظامي من الدِّين، أمّا الزين الذي لم يدخل الجامع مرةً واحدةً فهو موصولٌ بالله رغم ما يبدو عليه من حماقة، والسَّرد في الرواية يتحيز للزين بالطبع، باعتبار الزين والحنين نموذجَين للفطرة، بينما إمام الجامع - بانشغاله بالفقه وعالَم العقل – يمثّل الأثر الحضاريّ في الدِّين.
ولعلّ هذا الانقسام بين (أهل الدِّين) في الرواية يذكّرنا بعالَم رواية (الإخوة كارامازوف) لدوستويفسكي، حيث البطل (ألكسي/ أليوشا) متأثّرٌ تمامًا بالشيوخ الروحانيين Starets الذين لا يرتاح لهم ولا يحبهم قساوسةُ الكنيسة النظاميّون، ودستويفسكي منحازٌ بالطبع إلى الفئة الأولى.
ختاما، تبدو (عرس الزين) اكتمالاً لمشروعٍ فكريٍّ ثريٍّ امتلكه (الطيب طاهر)، كان الجانب الأكبر منه قد تبلور في (موسم الهجرة إلى الشَّمال). ففي الروايتين معالجةٌ لموضوع الفطرة والحضارة، وفي كليهما كذلك معالجةٌ لطبيعة الحُبّ بين الرجُل والمرأة وانتصارٌ لمفهوم (المودّة والرحمة). ولعلّ (الزين) بدروشتِه وتلقائيّتِه وروحانيّته المستسِرّة التي جذبت إليه الوليّ (الحنين) يقف في مواجهة (مصطفى سعيد) ذلك البطل الأسطوريّ لموسم الهجرة إلى الشمال، حيث تميّز مصطفى بعكس ما للزين من خصال، فهو عقلانيٌّ إلى أبعد الحدود، أكاديميٌّ رائدٌ في علم الاقتصاد الذي يتربّع على قِمّة هرَم العُلوم الإنسانيّة بوصفِه مهتمًّا بمُحصِّلتها النهائية، وهو – بعكس الزين الذي يحلم بكلّ عروسٍ إلى أن تتزوّج – يصطاد فرائسَه من النساء في عبقريّةٍ ويجعل منهنّ موضوعاتٍ جنسيّةً ُيبارز بها الحضارة الغربية التي اجتذبَته ودجّنَته وزرعَت في نفسِه كراهيتَها في الوقت ذاتِه.
(الزين) إنسانٌ مَسوقٌ بنوازعه الرُّوحيّة، لا سُلطانَ مِن عَقلٍ له عليها، و(مصطفى سعيد) كما وصف نفسه أكثر من مرّةٍ في (موسم الهجرة): "كان عقلي كمُديَةٍ حادَّة". لكن بينما يجني (مصطفى) على نفسه في أوربا فلا يجد بُدًّا من العودة إلى عمق بلدته السودانيّة المطمئنّة ليكتشف ما للفطرة من مزايا، تتكلّل حياة (الزين) – أو ما نشهدُه منها في الرواية – بالنجاح ممثَّلاً في عُرسِه على أجمل بنات البلدة (نعمة)، وهو نجاحٌ لا أثرَ فيه لإعمال العقل أصلاً، كأنه في رحلةٍ إشراقيّةٍ تتنصّل من العقل وتبِعاتِه.
يظلّ (الطيب صالح) رحمة الله عليه جديرًا بالقراءة وإعادة القراءة، وتظلّ أعمالُه شواهد على عالَمٍ فكريٍّ ثريٍّ محتشِدٍ بالصِّراع والمشادّة بين ثنائيّاتٍ عديدة، ويبقى (عُرس الزين) نبعًا للفرح اللامعقول، للقارئ أن يَرِدَه إذا أُرِيدَ له ذلك!