ملفات وتقارير

ماذا حققت حركة الحقوق المدنية الأمريكية وبماذا فشلت؟

مقتل جورج فلويد يجدد المطالب بضرورة تفعيل قوانين المساواة الكاملة بين السود والبيض في أمريكا (الأناضول)
مقتل جورج فلويد يجدد المطالب بضرورة تفعيل قوانين المساواة الكاملة بين السود والبيض في أمريكا (الأناضول)

أعادت عملية القتل خنقا التي تعرض لها المواطن الأمريكي جورج فلويد على يد الشرطة، وعلى مرأى ومسمع الأمريكيين والعالم كله، وما أثارته من موجة احتجاج دولية، تسليط الضوء على واقع حقوق الأمريكيين الأفارقة، ولفت أنظار العالم إلى أن التمييز العنصري ضد السود ما زال قائما ليس في الولايات المتحدة الأمريكية وحدها، وإنما أيضا في مختلف أنحاء العالم الغربي المتقدم.

ولقد كشفت عملية قتل فلويد وما نجم عنها من مظاهرات عنيفة، أن النضالات التي خاضها السود في الولايات المتحدة منذ نهاية القرن التاسع عشر وطيلة القرن الفائت، وعلى رأسها ضمن "حركة الحقوق المدنية" التي تأسست منذ منتصف ستينيات القرن الماضي.. لم تمكن السود من وقف مسلسل الميز العنصري ضدهم..

وتأتي وفاة جورج فلويد وفق تقرير لمنظمة العفو الدولية، في أعقاب سلسلة من أعمال العنف العنصري ضد الأمريكيين السود توضح مستويات مروعة من العنف والتمييز في الولايات المتحدة الأمريكية. وهذا يشمل قتل رجل أسود كان يركض في الشارع، وهو أحمد أربيري؛ ومقتل بريونا تايلور، وهي امرأة سوداء كانت نائمة في شقتها عندما فتحت الشرطة النار عليها، وغيرهما كثيرون.  

وترتكب الشرطة الأمريكية وفق "العفو الدولية"، انتهاكات لحقوق الإنسان بمعدل متكرر بشكل صادم، لا سيما ضد الأقليات العرقية والإثنية، وضد الأمريكيين السود بشكل خاص. ففي عام 2019 وحده، شاركت الشرطة في مقتل أكثر من 1000 شخص في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

إقرأ أيضا: احتجاجات أمريكا تتواصل وإجراءات جديدة لتهدئة الشارع (شاهد)

ومع أن السلطات الأمريكية قامت بفصل الضباط المتورطين في مقتل جورج من وظائفهم، لكن هذا لا يمكن اعتباره عدالة، وفق النشطاء الحقوقيين في الولايات المتحدة، حيث تطالب عائلة جورج ومجتمعه بمحاسبة جميع المسؤولين، وبضمانات بأن ذلك لن يحدث مرة أخرى. 

ويحتج الناس في الولايات المتحدة في الشوارع، ويطالبون بإجابات على وفاة جورج، لكنهم يتعرضون للقمع على أيدي الشرطة بدلاً من ذلك.

فهل هذا يعني أن حركة الحقوق المدنية، فشلت في حماية الأمريكيين من الأصول الإفريقية من الانتهاكات العنصرية؟

 

تعود حركة الحقوق المدنية إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي في الولايات المتحدة الأمريكية، وكان شعارها الرئيسي هو إنهاء الفصل العنصري والتمييز ضد الأمريكيين السود وتمكينهم من الاعتراف القانوني بحقوقهم التي كفلها لهم الدستور.

لم يعرف العالم يومها وسائل التواصل الاجتماعي كما هو اليوم، ولم يعرف الأمريكيون السود وسائل الإعلام كما عرفوها اليوم، ولم يصل أحد منهم لرئاسة الولايات المتحدة كما فعل باراك أوباما عام 2008.

يعود المراقبون بجذور حركة الحقوق المدنية في الولايات المتحدة إلى الحرب الأهلية التي عرفتها أمريكا بين عامي 1861 و1865، ثم تعديل الدستور عام 1868، لإقرار المواطنة والمساواة في الحقوق بين السود والبيض، لكن ذلك لم يفلح في تجميع الأمريكيين وإنهاء التمييز ضد السود بشكل نهائي.

وتمثل قوانين جيم كرو التي تم فرضها في الولايات الأمريكية الجنوبية، التشريع القانوني للتمييز في أجلى صوره، حيث يتم بموجبها الفصل بين الأعراق في الأماكن العامة بضمنها المدارس الحكومية، والمتنزهات، وأماكن المبيت، ووسائل النقل، ويُحرم الذكور من السود حق الانتخاب عن طريق فرض ضرائب الانتخاب واختبارات القراءة وخدع أخرى، ويُمنع الزواج المختلط بين الأعراق.

وعرفت العقود الأولى من القرن العشرين صنوفا من عمليات استهداف السود وقتلهم خارج نطاق القانون بتنفيذ من حركات تفوق البيض مثل "كو كلوكس كلان"، لكن الرافضين للتمييز العنصري تمكنوا من الوصول إلى إلغاء كثير من مخلفات قوانين جيم كيرو، ولا سيما في مجال الفصل بين السود والبيض في مدارس التعليم وفي حافلات النقل، وصولا إلى فرض الحق في الانتخاب نهاية ستينيات القرن الماضي.

وبرزت أسماء لامعة في تاريخ حركة الحقوق المدنية من أهمها مارتن لوثر كنغ جونيور، الذي كان واحدا من أهم قادة حملة فرسان الحرية، لا سيما بعد انتقاله إلى مدينة برمنغهام في ولاية آلاباما، التي كانت واحدة من أهم المدن المشهورة بالعنف ضد السود. وفيها تم اعتقاله ثم الإفراج عنه، حيث اختار اللجوء إلى تنظيم مظاهرات للأطفال السود ضد قوانين التمييز العنصري.

وقد جلب ذلك انتباه الرئيس كنيدي ودفعه إلى اقتراح مشروع قانون الحقوق المدنية، الذي أقره الرئيس ليندن جونسون (Lyndon Johnson) في تموز (يوليو) 1964، بعد أكثر من عام عن اغتيال كنيدي.

وقد تعزز قانون الحرية المدنية الذي ينص على قبول السود في كل المرافق العامة، بقانون جديد يقر للسود بحق التصويت لسنة 1965، والذي منع التشريعات غير القانونية مثل إختبارات القراءة أو ضرائب الإقتراع التي تعرقل مشاركة السود في التصويت.

ومن رحم حركة الحقوق المدنية، ظهرت حركة "القوة السوداء" التي شجعت السود على أخذ حقوقهم بالقوة إذا تطلب الأمر، وأحياناً باستخدام العنف..

الآن بعد نصف قرن من تأسيس حركة الحقوق المدنية، والنضالات التي قادها السود وأنصارهم من قادة العمل الحقوقي والسياسي في الولايات المتحدة الأمريكية، لا زال السود يمثلون بالأرقام الطرف الأكثر تضررا من عمليات القتل والانتهاكات الحقوقية الممارسة من طرف رجال الشرطة.. 

وقد دعت منظمة "هيومن رايتس ووتش" في تقرير لها صدر يوم 2 حزيران (يونيو) الجاري سلطات الولايات المتحدة الأمريكية إلى اتخاذ خطوات جريئة لمعالجة العنصرية البنيوية التي تُحرّك الاحتجاجات الشعبية الحاشدة في جميع أنحاء البلاد.

وأكدت "هيومن رايتس ووتش"، أن على الحكومات الوطنية والمحلية وحكومات الولايات أن تسنّ وتُطبّق تدابير مساءلة مُجدية للشرطة، وتحدّ بشكل كبير من الاعتقالات غير الضرورية، وتُنهي اللجوء إلى الشرطة لمعالجة المشاكل المجتمعية المتصلة بالفقر والصحة، والتي تستهدف بطريقة غير متناسبة الأشخاص السمر والسود. 

وذكر التقرير أن "مقتل فلويد كان الحادثة الأخيرة من تاريخ طويل من قتل الأشخاص السود على يَد الشرطة في الولايات المتحدة من دون مساءلة تُذكر، إن وُجِدت أصلا". 

وقال: "في السنوات الأخيرة، تعدّدت الأسماء، من إريك غارنر، وفيلندو كاستيل، وآلتن ستيرلنغ، إلى دلرون سمول، وترنس كراتشر، وبريونا تايلور، وكثيرين غيرهم. شملت اللائحة أيضا مقتل رجال سود رفض المدّعون التحقيق في قضاياهم بشكل مناسب، مثل أحمود أربري (25 عاما) الذي قتله رجلان أبيضان بينما كان يركض في جورجيا في فبراير/شباط". 

ووفق هيومن رايتس ووتش فإنّه بينما تحظى جرائم القتل المصوّرة بالفيديو مثل مقتل فلويد بتغطية إعلامية واسعة، تستعمل الشرطة في الولايات المتحدة القوّة وترتكب اعتداءات لا تتسبّب بالقتل لكنّها مؤذية ومنتشرة، خصوصا ضدّ السود. 

وتُظهر الدراسات أنّ الشرطة تمارس القوّة ضدّ السود بمعدّلات أعلى بكثير من البيض، باستعمال الأجهزة الكهربائية الصاعقة، وعضّات الكلاب، والعصي، واللكمات والركلات. 

ووفق "هيومن رايتس ووتش" فقد وجدت في مركز الشرطة في تولسا في أوكلاهوما أنّ عناصر الشرطة يستعملون الأجهزة الكهربائية الصاعقة ضدّ السود أكثر بثلاث مرّات من استعمالها ضدّ البيض، وأنّ السود معرّضون لعنف الشرطة أكثر بـ2.7 مرّات.

وكشفت دراسات عديدة تفاوتات عنصرية ملحوظة في معدّلات عمليات التوقيف والتفتيش التي تنفّذها الشرطة، وأظهر مسح أجري مؤخرا أنّ 95% من أقسام الشرطة في الولايات المتحدة تعتقل السود بمعدّل أعلى من البيض، بتواتر أكثر بعشر مرّات أحيانا.

ورأت "هيومن رايتس ووتش"، أن ما قدمه السياسيون الأمريكيون، من مقترحات مثل تعزيز الرقابة، بما تشمله من تحقيقات جديدة في انتهاكات الشرطة، ووضع حدّ للحصانة المشروطة ـ نهج قانوني يحمي جميع عناصر الشرطة تقريبا الذين يُحاكمون لسلوك مسيء من المسؤولية المدنية عن هذا السلوك، إن هذه المقترحات لا تعالج المشكلة الجوهرية، ألا وهي توظيف سلطات الولايات والسلطات المحلية لعدد كبير من عناصر الشرطة الذين يقومون باعتقالات غير ضرورية في جهود غير موفّقة لمعالجة المشاكل المجتمعية باستعمال أعمال شُرطية، علما أنّ هذه المشاكل لا ينبغي حلّها باعتماد نهج عقابي لإنفاذ للقانون.

وهكذا فإنه وعلى الرغم من قدرة العمل الحقوقي السلمي، الذي أنجزته حركة الحقوق المدنية وتعديل الكثير من التشريعات والقوانين المتصلة بإنهاء التمييز بين السود والبيض، فإنها لم تفلح في تحويل هذه التشريعات إلى واقع على الأرض، ينهي النظرة الاستعلائية التي ما زال الأمريكيون البيض يتعاملون بها مع الأمريكيين السود..

 

إقرأ أيضا: أمريكيون يفتحون حسابا مع ماضي العبودية ورموز "الكونفدرالية"

التعليقات (0)