قضايا وآراء

بين الاستراتيجية والتوصيف

عمرو علان
1300x600
1300x600
ما أن هلَّ عام 2020 حتى وصلت ما اصطلح على تسميتها بعملية السلام إلى طريق مسدودة. فقد أعلن كيان الاحتلال عن وفاتها عمليا من طرف واحد، عبر إقراره قوانين يهودية الدولة واستكماله ضم أراضي الضفة وباقي أراضي القدس، مما يؤسس بدوره إلى تهجير سكان الضفة الغربية والفلسطينيين في أراضي 1948.

ونتيجة لفشل هذه العملية، راج مؤخرا في بعض المحافل فكرة مفادها أن النضال ضد الفصل العنصري (الأبارتهايد) والسعي للمطالبة بالحقوق الديمقراطية للشعب الفلسطيني في ظل دولة واحدة؛ هي الركيزة الأمثل لتجديد المشروع الوطني الفلسطيني ولصياغة استراتيجية جديدة لاستكمال نضال الشعب الفلسطيني؛ من أجل حصوله على حقوقه الوطنية.

وبرغم ما تحمله هذه الأطروحات من جاذبية، إلا أنه لا يتم تحديد طبيعة هذه الدولة المفترضة؛ إن كانت دولة متعددة القوميات أو أي صيغة أخرى، ويُترك هذا الأمر للمستقبل كي يحدد شكل هذه الدولة المفترضة وطبيعتها.

إننا نجد في هذه الأطروحات إقلاعا عن المنهجية في توصيف كيان الاحتلال، حيث إن فيها قفزا عن الطبيعة الوظيفية لهذا الكيان وتجاوزا لحقائق تاريخ نشأته من ناحية، ونجد فيها عملية إسقاط لواقع تجارب شعوب وأقاليم أخرى، تختلف في ظروفها وطبيعة جغرافيتها السياسية عن خصائص القضية الفلسطينية من ناحية أخرى، هذا مع الاعتراف بصحة فكرة وجود تقاطعات بين القضية الفلسطينية وقضايا التحرر الوطني مع باقي شعوب العالم في بعض النواحي، بل أحيانا في العديد منها.

التوصيف الأقرب لحقيقة كيان الاحتلال ولحقائق التاريخ هو أنه مستوطنة استعمارية وامتداد لمصالح القوى الغربية الاستعمارية في منطقتنا. وقد كان خلق هذا الكيان هو الحلقة الأخيرة في مشروع الاستعمار القديم، الذي ورِث المنطقة العربية بعد هزيمة الدولة العثمانية وتفكيكها.

لقد خلف الاستعمار القديم وراءه حواجز مصطنعة تفصل بين الأقاليم العربية الإسلامية، فتقطع دورة الحياة الطبيعية فيما بينها. فهذه الحواجز تحول دون وصول المنطقة العربية الإسلامية إلى مرحلة التعاون الإقليمي والتكامل الاقتصادي عبر حركة انتقال البضائع والأفراد.

إن وظيفة كيان الاحتلال الأساسية (التي لا يمكن الجدال فيها) هي ضمان بقاء وضع المنطقة على الحالة التي خلفها عليه الاستعمار القديم، فضلا عن كونه عاملا فعّالا في إدامة عدم الاستقرار في المنطقة، ومصدر في تهديد سيادة دول المنطقة كلها.

ومنذ نشْأة كيان الاحتلال وحتى وقتنا الراهن لا توجد أي شواهد على تبدل طبيعته أو دوره الوظيفي، وأوضح قرينة في هذا السياق هي التبني الكامل والدعم المادي والتسليحي والسياسي اللامحدود الذي تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية (الدولة الاستعمارية الأكبر) لكيان الاحتلال.

وإن فحصا سريعا لهذا الدعم يبين أنه يختلف نوعا وكماً عن أي دعم تقدمه الولايات المتحدة الأمريكية لسائر الدول التي تدور في فلكها، من حيث أنه غير محدود، وهذا بدوره ينسجم مع الدور الوظيفي لكيان الاحتلال وكينونته بصفته امتدادا عضويا لمنظومة النهب الأمريكية، ناهيك عن الدعم المستمر لكيان الاحتلال من دول الاستعمار القديم.

إن أي مظاهر فصل عنصري أو تمييز ديني ما هي إلا نتيجة عرضية بسبب طبيعة كيان الاحتلال، وليست هي لب الصراع.

إذا تبنى الباحث التوصيف المطابق لواقع كيان الاحتلال، فلا مناص من توصيف قضية التحرر الوطني الفلسطيني على أنها جزء من كل، وأنها رمز وجوهر قضية استكمال التحرر الأشمل لسائر المنطقة من آثار وتبعات الاستعمار القديم، وإعادة بنائه على صيغة متوافقة مع طبيعته وتاريخه كوحدة جغرافية ممتدة متواصلة تختزل في ثناياها كل مقومات الإمبراطورية.

إن الخطأ في التوصيف يُفضي إلى الضياع في العوارض عِوضا عن الولوج في أصل المسألة، وإلا فما هي وظيفة هذا الكائن الديمقراطي الذي يعيش في ذلك الحيّز الجغرافي المتمثل بالدولة الفلسطينية الديمقراطية المتخيلة؛ بناء على أطروحات مناهضة الفصل العنصري؟ وما هو دوره فيها؟ وهل سينتهي به الحال كجزء من الامتداد الاستعماري على المنطقة؟

الأمل الوحيد في أن تعطي استراتيجية النضال من أجل دولة ديمقراطية أُكلَها؛ هو أن تتحول الحركة الصهيونية من كونها امتدادا عضويا لقوى الاستعمار الخارجي إلى رافعة لمشروع نهضوي تحرُري للمنطقة العربية والإسلامية!!.. ولن تتحول.

إنه لمن نافلة القول أن أي مشروع وطني يصاغ على قراءة مغلوطة لواقع الحال وطبيعة الصراع سيفضي إلى نتائج عكسية وطرق مسدودة. وأي استراتجية يجب أن تأخذ بالحسبان اختلال موازين القوة لصالح العدو. وإن طرح أي تصورات لحلول مستقبلية قبل تعديل موازين القوة هذه؛ ما هو إلا صيغة استسلام وطريق لمزيد من التنازلات، علما أن الاختلال في توازن القوة هذا بات يضمحل بشكل واضح ومضطرد، بسبب الإنجازات المتراكمة لفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة ولقوى المقاومة على ساحة المنطقة العربية، وتضاف إلى ذلك التغيرات الواضحة على الساحة الدولية وحالة السيولة التي يعيشها العالم بين مرحلتين في النظام الدولي، وهذا حديث يطول.

إن أي مشروع وطني أو أي استراتيجية تحرير لا تُبنى على أساس التوصيف الواقعي للصراع والطبيعة الفعلية للكيان الصهيوني ودوره الوظيفي، ولا ترتكز بالأصل على فكرة تعديل موازين القوة عبر مراكمة الهزائم ضد العدو، بالإضافة إلى الاستثمار في سائر قوى المقاومة الصاعدة في منطقتنا، لن تكون هذه كلها إلا بمثابة مزيد من التجارب الهدامة بحق القضية الفلسطينية، وستفضي إلى مثل ما وصلت إليه استراتيجية السلام التي لم تخلف لنا إلا المزيد من ضياع الوقت والأرض، وأدت إلى حرف البوصلة وإفساد الوعي لدى شرائح واسعة من الشعب الفلسطيني والعربي على حد سواء.
التعليقات (5)
Ahmad demir
الثلاثاء، 26-05-2020 12:57 م
استاذ هذا مقال كبير ويحلل عميقا جدا
ابو محمد
السبت، 23-05-2020 09:58 ص
مقال جميل رائع يفند مسار اعادة القضية الى عهد روابط القرى التي تم افشالها من قبل مقاومة الشعب الفلسطيني
صادق فيصل
الجمعة، 22-05-2020 01:31 ص
مقال رائع ووضع النقاط على الحروف ،لاسيما ان انظمتنا العربية استسلمت لواقع الاحتلال ، ولكن شعوبنا العربية والاسلامية ترفض هذا الواقع ،ولديها امل كبير في تغيير هذا الواقع المرير .وهناك ارهاصات كثيرة تشير الى قرب تغيير هذا الواقع الى الافضل ،فالتغيرات الاقليمية والدولية تشير الى ذلك .
بلال زاهر بلال
الخميس، 21-05-2020 11:55 م
توصيف دقيق وتحليل موضوعي للصراع ينم عن فهم للحقائق الموضوعية ويقرأ البعد التاريخي من منظور ديالكتيكي ورؤية جيو استراتيجية علمية ثاقبة. ماشاء الله عليك استاذ عمرو
بلال بلال
الخميس، 21-05-2020 11:17 م
توصيف دقيق وتحليل موضوعي للصراع ينم عن فهم للحقائق الموضوعية ويقرأ البعد التاريخي من ديالكتيكي ورؤية جيو استراتيجية علمية ثاقبة. ماشاء الله عليك استاذ عمرو