مدونات

وصفناها بمعلمة الأكياس.. عندما تتفوق نرجسية الأطفال على براءتهم

عماد المدولي - كاتب مدون ليبي
عماد المدولي - كاتب مدون ليبي
عندما كنت أدرس في المرحلة الأخيرة من الابتدائية في ليبيا الصف السادس تقريبا في عام 1992، جاءت إلى مدرستنا معلمة جديدة لا نعرفها، حيث كما هو متعارف عليه في مدرستنا جميع المعلمات أو أغلبهن من سكان المنطقة، بالإضافة إلى أنهن كن يتناوبن على تدريسنا في أغلب المواد، من الرسم وحتى الرياضيات... لذا كنا في المدرسة نعرفهن حق المعرفة!!

على العموم تلك المعلمة كانت امرأة بسيطة كُلفت بتدريس مادة تسمى "التقنية"، وهي مادة تعليمية تُعنى بالأمور التقنية البسيطة منها والمعقدة (أعتقد أنها ألغيت الآن)، وللأسف هذه المادة دائما ما يكلف بها من لا تخصص له، بمعنى أنها مادة غير مهمة بالنسبة للمعلمين وهو الأمر الذي انعكس على الطلبة فصاروا غير مهتمين بها ولا يحترمون حتى من يشرف عليها.

كنا نلاحظ أن هذه المعلمة دائما تحمل معها العديد من الأكياس عند قدومها إلى المدرسة، في كل حصة تأتي ومعها كم كبير منها بالكاد تحملها بين يديها، وهو حدث كما هو معروف لن يمر مرور الكرام أمام تهكم وسخرية الطلبة في هذه المرحلة العمرية بالذات.

بدأت التسميات والألقاب تنهال على المعلمة المسكينة من كل حدب وصوب، لكن اللقب الأكثر شهرة والذي أرضى نرجسيتنا ووحشيتنا هو "معلمة الأكياس"، نسبة إلى الأكياس التي تحملها دائما معها، أو "شكاير" كما نقولها باللهجة الليبية في المنطقة الشرقية.

ولأنها امرأة طيبة لم ترد علينا يوما ولم تفرض علينا أي عقوبة ولم تفارقها تلك الابتسامة البسيطة، رغم أنها تعلم بهذه التسمية، بل استمرت في إعطاء الحصص دون ملل ولا كلل، ولم تتوقف يوما عن جلب المزيد والمزيد من الأكياس معها للمدرسة.

بعد عدة سنوات لا أتذكرها بالضبط، لكن أذكر أني كنت في مرحلة الثانوية، بينما وأنا أتسكع مع أحد الأصدقاء في منطقة سكنية محاذية لمنطقتنا رأيت تلك المعلمة "معلمة الأكياس" تخرج من بيتها..

كان بيتا قديما متهالكا يسمى عندنا الحوش عربي"، مكونا من طابق واحد بالكاد يقف على قواعده. أقفلت المعلمة الباب الذي يعلوه الصدأ من كل مكان بعد عدة محاولات، وما لفت نظري هي تلك الابتسامة الهادئة رغم أنها كانت تصارع ذلك الباب حتى يستجيب لها وينغلق.

إنها ذات الابتسامة التي كانت ترتسم على شفتيها حتى بعد أن تسمع أحد الطلبة المشاكسين وهو يصرخ في ممر المدرسة "المعلمة أكياس وصلت"!!

علمت حينها من بعض جيرانها أنها من عائلة فقيرة جدا، وزوجها عامل بسيط في أحد المصانع التابعة للدولة ولا يتجاوز راتبه في ذلك الوقت 90 دينارا (60 دولار أمريكي تقريبا)، وكانت إلى جانب عملها كمعلمة احتياطية تبيع للمعلمات في المدرسة بعض الملابس التي تحصل عليها من أحد التجار.

تخيلت وقتها كيف كانت تعاني تلك المعلمة وهي تحمل كل تلك الأكياس من أجل بيع قطعة أو اثنتين لزميلاتها المعلمات لعلها تحسن بها مرتبها البسيط الذي لا يصل إلى 80 دولار، ويتأخر أشهرا في كثير من الأحيان كما هو معتاد في تلك الفترة القاسية في ليبيا.

خجلت من وحشيتنا وقسوتنا ونحن نسخر منها... تلك الواثقة المبتسمة رغم كل هذه الظروف الصعبة المحيطة بها، وحتى مع كل تلك الألقاب والمسميات استمرت في دورها التعليمي دون كلل ولا ملل، وكافحت بصمت لمساعدة زوجها من أجل عائلتها الصغيرة.

في الحقيقة نحن من كان يستحق هذا اللقب وليست هذه المعلمة المكافحة..

فعلا كنا نستحق أن يكون لقبنا بكل جدارة "طلبة الأكياس "، ولكن ليست أي أكياس فهي بكل تأكيد ليست سوى أكياس الزبالة..!!
التعليقات (0)
الأكثر قراءة اليوم

خبر عاجل