أخبار ثقافية

كيف قضى التعليم على نفوذ الزعامات المحلية في الأردن؟

أصبح المتعلمون وأساتذة الجامعات يحلون جنبًا إلى جنب مع هذه الزعامات في قيادة العطوات والجاهات العشائرية- جيتي
أصبح المتعلمون وأساتذة الجامعات يحلون جنبًا إلى جنب مع هذه الزعامات في قيادة العطوات والجاهات العشائرية- جيتي

بدأ الأردنيون -على المستوى الشعبي- يدركون أهمية التعليم ودوره في السلطة والنفوذ في أواخر العهد العثماني، حينما أجريت انتخابات في مدينة الكرك لاختيار ممثل اللواء في مجلس المبعوثان. فقد نجح الشيخ قدر المجالي في الانتخابات إلا أن الحكومة ألغت عضويته في المجلس لأنه أُميّ لا يجيد القراءة والكتابة؛ فأعيدت الانتخابات بشكل جزئي ونجح توفيق المجالي بعد أن كان ترتيبه الثالث في القائمة(1).

 

فقد أخذ التعليم يقدم ويؤخر الزعامات داخل العشيرة الواحدة، وفي هذه الفترة بدأ الإقطاعيون وأصحاب الزعامة يدركون أهمية التعليم والتحصيل العلمي في تثبيت قوتهم ونفوذهم.


وفي بداية عهد الإمارة تم استثناء كثير من الأردنيين من المناصب بحجة أنهم غير متعلمين، وتم إسنادها إلى الوافدين من العرب الذين استطاع الأمير استقطابهم حوله، ولم يبدأ إسناد المناصب العليا للشرق أردنيين إلا في أواخر الثلاثينيات. غير أنّ هذه الفكرة التي لا يزال الكثير منا يرددها ليست صحيحة بالمطلق، وعلى الأغلب فإن الأمير كان يسعى إلى تثبيت قدمه في المنطقة وليس من الحكمة أن يعتمد على السكّان الأصليين الذين قد يطالبون بالحكم لأنفسهم.


وفي المقابل، فقد عبّر المتعلمون الأردنيون عن احتجاجهم على التهميش من خلال التفافهم حول ثورة البلقاء بقيادة ماجد العدوان، وكان من بينهم عودة القسوس الذي كان عضو محكمة الكرك في العهد العثماني، والشاعر عرار (خريج مدرسة عنبر في دمشق) الذي صاغ شعار الثورة: "الأردن للأردنيين". وإذا حاولنا استعادة بعض المتعلمين في ذلك الوقت فسنجد أنّ حنّا القسوس حصل على شهادة الطب عام 1910م وأنهى تدريبه في جامعة السوربون عام 1912م. أمّا علي خلقي الشرايري (من إربد) فقد تخرّج في الكلية العسكرية في الأستانة ووصل إلى رتبة لواء في الجيش العثماني، أمّا محمد صبحي أبو غنيمة شيخ المعارضين الأردنيين فقد تخرّج في مدرسة عنبر أيضًا في العهد العثماني وحصل على شهادة الطب من ألمانيا عام 1929م.


وإذا كانت مدارس المسلمين الابتدائية -على قلتها- تأسست في أواخر العهد العثماني، فإن المدارس المسيحية قديمة في البلاد وكانت تستقبل الأطفال من كل الأديان (مسلمين ومسيحيين)؛ فمدرسة الروم الأرثوذكس في الكرك كان عمرها عند تأسيس الإمارة يتجاوز الثلاثمئة عام(2). كما أن الكتاتيب كانت منتشرة في العهد العثماني في القرى والحواضر الأردنية؛ ففي عمّان مطلع القرن العشرين كانت هناك تسعة كتاتيب، أغلبها للذكور فقط، وبينما كان كتّاب الشركس يستقبل الذكور والإناث فقد كان هناك كتّاب "فهيمة خانم" الخاص بالبنات(3). 


وقد أنشأ العثمانيون مدارس ابتدائية في الكرك والسلط وعمّان وإربد ومعان والطفيلة؛ بعضها أُنشئ في الربع الأخير من القرن التاسع عشر فيما أُنشئ البعض الآخر في السنوات الأخيرة من العهد العثماني مثل مدرسة عمّان (1916). فيما يعود إنشاء مدرسة البنات في مدينة السلط إلى العام 1871م.  ولقد زاد عدد المدارس الابتدائية زيادة ملحوظة في فترة الحرب العالمية الأولى، فقد اكتشف الأتراك أخيرًا أهمية المنطقة وولاء أهلها لفكرة الخلافة رغم الإهمال الفظيع الذي قابلتهم به الدولة طيلة أربعة قرون. أمّا في العهد الفيصلي (1918-1920) فقد ازداد الاهتمام بالتعليم وفتح المدارس، واتخذت الحكومة العربية قرارًا باعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتدريس بعد أن كانت المدارس تعلّم بالتركية(4).


كما أنّ الكثير من الزعماء كانوا يرسلون أبناءهم إلى دمشق كي يكملوا تعليمهم، وذلك لإدراكهم مبكرًا أهمية التعليم في تحديد مستقبل المنطقة، فقد أرسل كليب الشريدة (زعيم لواء الكورة) ابنه عبدالله -كان يتقن التركية- إلى دمشق بعد أن أنهى تعليمه الابتدائي في مدرسة إربد إلا أنه لم يكمل دراسته بسبب قيام الحرب العالمية الأولى(5). وسيوفر له هذا التعليم فرصة إشغال عدة وزارات في حياته ابتداء من نهاية الثلاثينيات.  


لقد حرص الشيوخ والزعماء المحليون على تعليم أولادهم انطلاقًا من معرفتهم بأهمية التعليم في حسم صراعاتهم وتنافسهم القادم على السلطة. ولكن ما هو موقف هؤلاء من تعليم أبناء الفلاحين والبدو الذين كانوا يخضعون تحت سلطتهم؟ 


إنّ المعلومات والقصص التي ترويها الذاكرة الشعبية تؤكّد على حقيقة مفادها: أن هذه الزعامات التي كانت حريصة على تعليم أبنائها كانت في المقابل حريصة على الحفاظ على جهل أتباعها، وذلك لأن تعليم هؤلاء سيؤدي بهم  إلى فقدان سيطرتهم على المناطق التابعة لهم وإلى خروج منافسين جدد من الطبقات الكادحة، وقد عبّر أحد باشاوات المنطقة عن ذلك بعبارة مشهورة في شمال الأردن وهي: (إذا الفلاحين تعلموا ما حدا رح يقدر يمون عليهم).


وإذ إننا لا ننكر الدور الوطني الذي لعبته هذه الزعامات والذي سنتناول بعضه في مقالات لاحقة، فإنه من الواجب علينا أن نسلّط الضوء على الدور السلبي أيضًا.  فقد كان إحساسهم بالخطر في موضعه تمامًا وله ما يبرره على الصعيد النفسي؛ فيروى أن كليب الشريدة -الذي كان حريصًا على تعليم كل أولاده- زار مدرسة إربد ليسأل عن أحد أبنائه، وأثناء زيارته للغرفة الصفية أحب أن يتعرّف على زملاء ابنه من أبناء الإقطاعيين والمسؤولين، غير أنه تفاجأ بوجود ابن أحد الفلاحين التابعين له، فجن جنونه وطرد الولد من الصف وأمر والده بالتوقف عن إرساله إلى المدرسة. 


ولكن الوالد كان فلاحا عنيدًا وعصى الأوامر وواظب على إرسال ابنه إلى المدرسة وإكمال تعليمه إلى أبعد حد؛ وسيصبح هذا الولد وزير داخلية الأردن(6) والذي ستجرى في عهده انتخابات عام 1989م. وهي الانتخابات الأكثر ديمقراطية في ذاكرة الأردنيين.   


أمّا في جرش، فقد استطاع زعيم المنطقة علي باشا الكايد العتوم بفضل التعليم أن يقصي عمّه عبد العزيز والاستفراد بالزعامة. وفي المقابل، حرص قدر استطاعته على ألا ينتشر التعليم خارج أبنائه؛ ويروى أنّ الأمير أراد إنشاء مدرسة ثانوية في بلدة "سوف" (مركز جرش في ذلك الوقت) ولأن الباشا لم يرغب في تحدي رغبة الأمير، فقد أعلن موافقته. 

 

وبالفعل تم إحضار الحجارة المخصصة لإعمار المدرسة وكان العمل على وشك البدء؛ غير أن الباشا عرف كيف يثير غضب منافسيه داخل العشيرة الذين أثاروا الناس بحجة أن المدرسة سوف تستقطب الغرباء إلى البلدة، الأمر الذي يسيء إلى سمعة البلدة وبناتها. وقام الأهالي بإعلان رفضهم وتمردهم، فما كان من الباشا إلا أن انصاع لهم وأبلغ الأمير برغبتهم؛ فتم نقل المدرسة إلى منطقة أخرى، بينما استخدم الباشا حجارة المدرسة في بناء سور لقصره(7).  


لكن هذه الحيل لم تقف طويلاً في وجه تيار التعليم الذي سحب الزعامة تدريجيًا من يد الباشاوات، ومنحها لأبناء الفلاحين، خاصة في فترة الستينيات التي ترافقت مع زيادة نفوذ وصفي التل الذي فتح المناصب أمام هؤلاء المتعلمين في الجيش والحكومة. ولقد أخذ هؤلاء المتعلمون يزاحمون هذه الزعامات، ليس فقط على المناصب والوظائف الرسمية، بل على الوجاهة أيضًا. فقد أصبح المتعلمون وأساتذة الجامعات يحلون جنبًا إلى جنب مع هذه الزعامات في قيادة العطوات والجاهات العشائرية، أي أنهم أخذوا ينافسون على دفة المشيخة أيضًا.


وسواء صحت هذه الروايات الشعبية -وأغلبها صحيح- أم لا، فإنها تعبّر عن جوهر الصراع الذي دار بين الإقطاع وبين القرويين، كما توضّح في المقابل جوهر التحوّل الذي طرأ على الأردنيين نتيجة إدراكهم أهمية التعليم في ظل وجود سلطة مركزية. وأكثر ما يعبّر عن التحوّل الذي أحدثه التعليم الروايةُ الشعبيةُ التي تروى عن عبدالله باشا الكليب؛ فيروى أنه  كان يتجوّل برفقة مجموعة من أقربائه على الخيل في بداية الخمسينيات، فمروا من قرية ارحابا (إحدى القرى التابعة لهم في لواء الكورة)، فشاهد عبدالله باشا بناءً حديثًا؛ فاستفسر عنه، فقيل له إنهم يبنون مدرسة. فابتسم ونظر إلى من معه وقال لهم: "الآن انتهى نفوذنا".


مذكرات عودة القسوس، ص53-54.
– المصدر نفسه.
– سليمان الموسى، عمّان عاصمة الأردن، ص85.
– سليمان الموسى، من تاريخنا الحديث، ص169-171.
– مقابلة مصورة مع عبدالله الكليب، أجراها أحد إخوته عام 1992. 
- رواية شفوية يتداولها أبناء لواء الكورة، المصدر: سيف مساعدة.
– قابلت بين عدة روايات شفوية أهمها الرواية التي سجلها د. خضر عتوم: الزعامة الاجتماعية في سوف.

 
التعليقات (1)
morad alamdar
الثلاثاء، 21-04-2020 07:01 م
كثير من الآيات و الأحاديث التي تدل على عظم مكانة العلم في الإسلام ، و لعل ابتداء نزول القرآن الكريم بآيةٍ تحت على القراءة التي هي أساس العلم ، خير دليل على ذلك ، إذا إنّ أول الآيات نزولاً قوله تعالى : ( إقرأ باسم ربّك الذي خلق خلق الإنسان من علق . إقرأ و ربك الأكرام الذي علم الإنسان ما لم يعلم ) ، و قد رفع الإسلام من مكانة العلماء ، إذا استشهد الله تعالى بهم على وحدانيته ، كما قال : ( شهد الله أنه لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) . بالاضافة إلى أن العلم بالله تعالى و مخلوقاته ، و آياته في الكون ، تؤدي إلى الخشية منه ، و قد قرن الله تعالى الخشية منه ، و قد قرن الله تعالى الخشية منه العلماء كما قال : ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) . و مما يدل على أهمية العلم و التوسع فيه ، أمر الله تعالى لنبيه عليه الصلاة و السلام بطلب المزيد من العلم ، كما قال تعالى : ( و قل ربّ زدني علمّاً ) ، بالاضافة إلى فرض طلب العلم على المسلمين ، و تفضيل العالم على العابد ، و لا بد من الإشارة إلى تشجيع الإسلام على تعلم كافة العلوم النافعة ، و بالأخص علم الشريعة فهو أعظم العلوم على الإطلاق ، ثم علم الطب ، ثم سائر العلوم ، و قد حث رسول الله صلى الله عليه و سلم على تعلم ^^ القرآن الكريم ^^ و تعليمه ، حيث قال : ( خيركم من تعلم القرآن و علمه ) . هذا بالاضافة إلى أهمية العلم ذاته ، فربما يحتاج الناس إلى العلم أكثر من حاجتهم للأكل و الشرب ، لأن حاحتهم للعلم مُلازمةٌ لهم في كل أحوالهم بينما حاجتهم للأكل و الشرب عند الجوع و العطش فقط .
الأكثر قراءة اليوم