أخبار ثقافية

عن رواية "خديجة وسوسن" لرضوى عاشور

في أثناء السرد المحكم لا تملك الرائعة رضوى أن تنسلخ من التزامها السياسي والأخلاقي، المنحاز للحرية- مواقع تواصل
في أثناء السرد المحكم لا تملك الرائعة رضوى أن تنسلخ من التزامها السياسي والأخلاقي، المنحاز للحرية- مواقع تواصل

بينما أقرأ روايتها غير الذائعة "خديجة وسوسن"، ظللت أتخيّل رضوى عاشور، رحمها الله، جدّة رؤوما، على كرسيها الهزاز، لا تغزل قطعا قماشية لأحفادها، بل تنسج لهم رواية من موقع الأم – النقيض، التي تؤسس علاقتها بأبنائها على الكبت والقمع والضرب!

 

تقدم رضوى رؤيتها للحرية والعلاقات الإنسانية عبر رواية مشبعة بالتفاصيل والصراعات، تقود قارئها إلى التأمل في كثير من العلاقات السياسية - الاجتماعية.


من هنا جاء اسم الرواية بالغ الدلالة على فضاءاتها: "خديجة وسوسن"، أمٌّ قامعة وابنتُها التي لن تكف عن الاشتباك معها لتتحرر من قهرها. ورضوى كاتبة طموح للغاية، لا تكتفي بخط واحد لصراع الأم وابنتها، بل تبدأ بحكاية الأم منذ طفولتها، مرورا بنشأتها وشبابها، فزواجها وعلاقاتها بزوجها وأبنائها الثلاثة وأصدقاء الأسرة، وانتهاء بكهولتها الباكرة بزواج أبنائها ووصول صراعهم معها إلى نهايات واضحة المعالم.


اختارت رضوى للعنوان اسم الأم خديجة بينما اكتفت من أسماء الأبناء بسوسن، الابنة الثائرة رغم وجود سعد وزينب شقيقيْها وأبنائهما.

 

وعلى نمط الروايات الممتدة ذات النفس الطويل، تورط النص في استقصاء تفاصيل هائلة، لعل بعضها كان يمكن التخفف منه، كتفاصيل علاقة الطفلة خديجة بوالديها وشقيقها.

 

أتصور أن رضوى اختارت استقصاءها حتى تجلو شخصية بطلتها خديجة من كافة زواياها، كاشفة عن مكامن استبدادها منذ طفولتها.


ينقسم السرد في النص إلى قسمين رئيسين: قسم ترويه خديجة من منظورها، تسرد فيه حكايات طفولتها وزواجها وأمومتها. وقسم آخر ترويه سوسن من منظورها، وأحيانا نسمع الحدث الواحد من الراوِيَتَيْن، كل من منظورها.

 

لعل ذلك أيضا مما يمكن مساءلته: هل كان مفيدا أن نسمع الحكاية ذاتها من منظورين متناقضين، ما دمنا مدركين طبيعة التناقض، بحيث نتوقع منظور إحداهما فور معرفتنا بالمنظور النقيض؟


وعلى شاكلة قطعة الكروشيه، تملأ رضوى عالمها الروائي بكل ما يحتاجه من ألوان وتصميم محكم النسج. لكل شخصية تاريخها المفصّل.

 

نعرف شخصية زينب، البكرية، منذ طفولتها، هي المطيعة الخاضعة لأمها ولصورة السلطة النمطية، حتى إنها تتزوج مجدي صديق طفولة أمها، دون حتى أن تتعرف إليه جيدا. وبالقدر ذاته من مهارة النسج، نتوقع تصرفات سوسن منذ سردت رضوى طفولتها بما يكشف عن تمردها وثوريتها التي تسللت إلى كيانها في غفلة من والدتها.


ربما يكون ثمن ذلك الإحكام أن تمتنع المفاجآت تماما في أحداث الرواية. لشدة وضوح الرؤية، نكاد نتنبّأ بردود أفعال شخصيات الرواية. بل إنني في لحظة ما، تأكّدتُ أن كمال زوج خديجة، الجراح الشهير الذي وَكَل إليها أمر تربية الأبناء، سيكشف عن خيانة فادحة لتلك الزوجة المستبدة، التي لا تراجع نفسها أبدا، وقد كان.


الاستثناء الوحيد لأفق التوقع، في تقديري، جاء من نصيب سعد، الابن الأصغر. طالما كان مطيعا، لا يجسر على عصيان أمه، حتى إنه ضحى بموهبته في الرسم، وتراجع عن قراره بأن يكون فنّانا، خضوعا لرغبتها في أن يصبح طبيبا يدير المستشفى – الحلم الذي أسّسه أبوه بعد تاريخ حافل في عالم الجراحة.

 

في نهاية الرواية سيضرب سعد أفق التوقع، رافضا تلك الحياة كلها: مهنته كطبيب أقل من المتوسط، وزواجه بترتيب من أمه من فتاة غير التي أحبها.

 

سيتحرر سعد بالهروب من مصر كلها، غير أنه سينهزم، منتحرا، دافعا حياته ثمنا لاختياره الذي عجز عن تحمّل عواقبه.


ورضوى أيضا تحب المفاجآت. سوف نكتشف أن سوسن قد لا تكون معادلا كاملا للانعتاق والتحرر، ففي النهاية، أشفقت على أمها التي دمّرها انتحار ابنها.

 

كما خاضت حوارات داخلية مستفيضة تتأمل فيها علاقتهما، محتارة بشأن مشاعرها نحوها، بل ربما نشعر أن كفة تعاطفها معها رجحت على كفة غضبها منها. تتفهّم سوسن تصرفات أمها على نحو ما.

 

هل هي معادل الحرية أم سعد؟ سؤال مشروع وإن بدا غريبا على الرواية التي أخضعت سعدا منذ البداية.

 

اقرأأيضا : عن الشعر والسّرد.. قصيدةُ "الحِكَاية" لنزار قباني نموذجا


استقلّت سوسن، تاركة شقة أسرتها، لكنها ظلت تزورها، وساندت أمها في محنة انتحار ابنها. ترددت أيضا إزاء مشاعرها نحو زوجة أبيها التي ظل يحتفظ بسرها حتى موته.

 

لم تدر سوسن هل هي تكرهها لأنها ضلع في خيانة أبيها لأمها، أم تتعاطف معها لأنها حب طفولة أبيها الذي خضع لقيود المجتمع والأسرة فتخلّى عن محبوبته، ابنة حارس عمارتهم، التي لا تليق به، هو الجراح الشاب الذي أرسلته أسرته الثرية لدراسة الطب في أرقى جامعات العالم.


في أثناء ذلك السرد المحكم لا تملك الرائعة رضوى أن تنسلخ من التزامها السياسي والأخلاقي، المنحاز للحرية.

 

فهي تؤرخ، على نحو غير مباشر، لحقبتي عبد الناصر والسادات، راصدة أهم أحداثهما عبر تفاعلات شخصيات الرواية. فجيل الأجداد يكرهون عبد الناصر، لأنهم من الأثرياء، وجيل الآباء مثل كمال وخديجة يتوق للتحرر من الحقبة الناصرية خوفا من شبح التأميم، وهؤلاء يجدون ضالّتهم في حكم السادات، حيث يشيدون مستشفاهم، الذي يتيح لهم شبكة علاقات واسعة برموز السلطة، تصل إلى السادات نفسه.


أما جيل الأبناء، فتختلف توجهاته، مراوحةً بين زينب وسعد منعدميِ الرؤية السياسية وسوسن التي تدفعها اختياراتها السياسية نحو مغامرات تهدد باعتقالها بسبب انخراطها في شبكات المعارضة، مثلما تفتح أمام الشابة المتعطشة للحياة آفاقا واسعة لعلاقات الحب ومشروعات الارتباط الموءودة في مهدها. 


لا تحيد رضوى، بامتداد روايتها، عن الانحياز للمرأة وفضح الذكورة الشرقية الزائفة، التي هي قمع صرف، يختبئ خلف عادات اجتماعية بائسة.

التعليقات (0)