ذكرتِ الصحف ووكالات الأنباء أفلاما كثيرة تنبأت بوباء عالمي سببه الفيروسات، منها فيلم كوري جنوبي -فلا توجد
سينما في كوريا الشمالية- ذكرَ الفيروس بالاسم والصفة. ونجد في
أفلام جيمس بوند أفلاما عن علماء يحاولون تدمير العالم بالفيروسات. وقد وجدت في فيلم "حرارة"، نبوءة، وهو فيلم تعود نشأته إلى سنة 1995، حسن التشويق، يروي قصة الصراع بين الخير متمثلا برجل الدولة وهو شرطي اسمه فنسنت، يلعب دوره آل باتشينو، وبين لص بنوك ووثائق اسمه سليك، يمثّل دوره روبرت دينيرو. تقول ترجمة الفيلم العربية عن حوار منازلة يدور بين الشرطي وبين اللص إنه أهم حوار في السينما الأمريكية، ولم أجده كذلك، فهو حوار غير سينمائي، ويمكن للمرء أن يقرأه في كتاب. جودة الحوار السينمائي أن يعبر بالصورة عن الكلمة أو معها أو من دونها.
ووجدت مشهدا في الفيلم أولى من المشهد المذكور بالتدريس في معاهد السينما، وهو مشهد التلفزيون في الفيلم سأسميّه مشهد
كورونا. نجد في بداية الفيلم المحقق فنسنت يأكل من غير شهية ويمد يده إلى تلفزيونه الصغير، الذي سيصير بعد عقد هاتفا في الجيب. التلفزيون كان كتاب أمريكا المقدس، وهوليود هي جبل أولمب الأمريكي المقدس.
ثم نجده في مشهدٍ تالٍ يدخل على زوجته، فيجدها مع عشيقها مضطجعا على الأريكة، ويشاهد التلفزيون بعد نيل الأوطار. وسنذكر بأن الزوج المخدوع رجل دولة ومحقق، تجرأ العشيق على وطء زوجته، فقال للعشيق الذي قدّمته الزوجة له باسم رالف غاضبا: فهمت أنك تستعير زوجتي وتضطجع على أريكتي، ولكن أريد أن أعرف من أفتى لك بالفرجة على تلفزيوني من غير إذني!
وفعل الاستعارة ليس فعلا مناسبا للتعبير عن الخيانة الزوجية، فرالف لم يستعر الزوجة، والاستعارة تكون للأشياء وليس للبشر، لكن الحوار يعبّر عن عقيدة الأمريكي في تقديس وثن اسمه التلفزيون، الذي ساد قرنا كاملا، وعندما يرتفع ثمن الأشياء يقل ثمن البشر. نجد في الفقه الإسلامي بابا اسمه: دفاع الصائل، فالمعتدي على النفس أو المال أو البضع (العرض) يسميه العلماء صائلا، ودفع الصائل بما يُدفع به مشروع.
يصول بطلنا الغاضب الثائر، ليس من هذا الباب، بل من شباك أمريكي، وينترع لجام التلفزيون من منهل الطاقة، ويحمله معه، ويضعه في سيارته، ويقودها غاضبا في الشوارع مخترقا سطور المرور، ومطيحا بحروف السير وآدابه، وهو شرطي واجبه الحفاظ على القانون وسلامة الناس والنظافة، التي يخرقها لأنه غاضب من سلوك العشيق. وهو يمضغ العلكة طوال الفيلم، العلكة تسبيحة الأمريكي التي تنفث عنه التوتر والقلق، ثم يفتح باب السيارة عند إحدى إشارات المرور ويرفس التلفزيون، فيسقط متحطما، فالأمريكي لا وثن له سوى نفسه! لقد بدّل الأمريكي وثنه إلى وثن جديد هو الهاتف، الذي يشكل أحد محاور الصراع بين أمريكا وبين الصين التي أنتجت هاتف هواوي.
لقد كان المجرم أحد الأبطال المعشوقين في السينما الأمريكية، والحوار المذكور الموصوف بأنه أحد أهم المشاهد الكبرى في السينما يؤكد حرص العدالة الأمريكية على حقوق المجرمين. تقول وثائق المؤرخين إن فاتحي أمريكا كانوا من المجرمين الذي فتحوا أرض الحليب والعسل وقضوا على شعب كامل من "الوثنيين"، ثم تفضّلوا عليه بمنحه اسما رقيقا هو شعب أمريكا الأصلي، وهو لا يقدم ولا يؤخر سوى في نشرات الثقافة.
المجرم في الفيلم أشد وسامة من الشرطي، وهو ذكي، يقارع وحده دولة كاملة ويعبث بهم. تقع حسناء تعيش وحيدة اسمها آدي (ايمي برينمان) في حبه بسبب مجلة يشتريها عن المعادن وليس عن الروح أو عن الثقافة، بينما يعيش الشرطي حياة قلقة مع ابنة زوجته، التي تعاني من الوحدة واليتم، وزوجته التي تشكو غيابه الدائم، فيقول لها إنه في مهمة وطنية، وهو نفس قول الوزير (أحمد زكي) لزوجته التي تطالبه بحقوقها في السرير في فلم معالي الوزير: إنه مشغول بهموم الشعب!
أمريكا تقدّر المجرمين، ونجد مصداق تكريم أمريكا للمجرمين في توليتهم شؤوننا، فهي الباب العالي المعاصر في الأرض أو في معظم الأرض، فولّت علينا أشرارا ليسوا بربع ذكاء سليك، من أمثال السيسي والأسد وحفتر وابن سلمان وابن زايد، وليسوا بوسامة روبرت دينيرو، ولا برقّته مع صديقته آدي، ويرتكبون جرائم جماعية، تصنّف ضمن جرائم الإبادة البشرية، وكانت عقيدة سليك في الفيلم هي:
الحب ممنوع، حتى لا يعيقه عن الهرب.
ثم يخالف عقيدته في الفردية المطلقة، فيقع في الحب، ولديه عيب آخر هو الانتقام من أعضاء عصابته الذين خانوه، ويكون الانتقام لا الحب سببا في مقتله. وقد يكون الانتقام سببا في سقوط المجرمين الزعماء العرب الأشرار المذكورين، الذين أسرفوا في الانتقام على أعين الناس ضحى، وعلى ذمة حساب "العهد الجديد"، فقد أفرج ابن سلمان عن مئة متّهم بالقاعدة حتى يستدر عطف الغرب بالإرهاب، وكما فعل الأسد مع المتشددين، وكما أشعل السيسي سيناء بالنار، والأيام قادمة.
في المشهد الأخير ينتقم سليك من زميله واينجرو، ويهرب، فيلحق به الشرطي مسلحا ببندقية وعلكة، ثم يرديه صريعا، فيجلس سليك محتضرا على محولة كهربائية. قال الباحث توماس كيوان إن المجالات الكهربائية هي سبب الأوبئة الثلاثة في القرن الماضي. ينزف سليك، ويمد يده إلى الشرطي، ويقول له: لا أحب السجن، فيصافحه مصافحة مليئة بالتقدير للبطل الذي مات حرا، وينتهي المشهد ببطلين، بطل منتصر، وبطل شهيد أبى أن يعود إلى السجن الأمريكي ومات حرا في مطار تهبط فيه الطائرات وتقلع، وقد أقلعت روح سليك، وهبطت في مطار آخر هو فؤاد المشاهد!
حرارة، اسم الفيلم، هو فيلم حار، يذكّر بارتفاع حرارة مريض كورونا، وحرارة كوكب الأرض، بالصوبا الحرارية، فكوكبنا مهدد بذوبان جليد القطب الشمالي، الذي صبر ملايين السنين ثم أذابته حرارة الفلم الأمريكي ودخان صناعات الأمريكي.
ذكرت أمس تقارير علمية أن الفيروس ليس مؤامرة كونية بين الدول المتصارعة على النفوذ والهواتف، وليس صناعة مخابر، بل هو فيروس مؤصّل ومسجّل، ولديه شهادة ميلاد في وثائق وسجلات علمية ومخبرية، وقد تعرّض لطفرة وراثية، بسبب الفساد فانطلق يضرب في الأرض ويقتص من المجرمين الذين نجوا من القصاص، ومن الأبرياء أيضا. يقول الفلاسفة إن الخير يولد من بطن الشر، ونجد ظل هذا المعنى في آية من القرآن الكريم التي تقول: "وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ". كان شرُّ الحضارة الأميركية كبيرا، ولا أعرف من خيرها سوى السينما، ويمكنني أن أجد سمّا حتى في أجمل أفلامها مثل فيلم القلب الشجاع.
العلكة اختراع أمريكي للتنفيس عن الغضب، وجربتها مرة فأرهقتني، وزادت من قلقي وأتعبت فكيَّ، ولم أحبها قط، لكني أحببت الفيلم الأمريكي الذي أجزم أنه أحد أسباب ارتفاع حرارة العالم، "وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ".