في هذه السلسلة من المقالات، أتناول مراحل
النصر، في ضوء السيرة النبوية، وأحاول أن أربط ذلك بواقع الشعب
الفلسطيني، الذي يتطلع إلى الانتصار على الاحتلال، وتحرير أرضه.
المرحلة الأولى: الصدمة
جاء في صحيح البخاري، عن خباب بن الأرت قال: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو متوسدٌ بُردةً له في ظل الكعبة، قلنا له: "ألا تستنصُر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض، فيجعل فيه، فيجاء بالمنشار، فيوضع على رأسه، فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظمٍ أو عصب، وما يصده ذلك عن دينه، والله ليتمنَّ هذا الأمر، حتى يسير الراكب من صنعاءَ إلى حضرموتَ، لا يخاف إلا الله أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون".
"ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟".. هي الطبيعة الإنسانية، التي تميل إلى الراحة، تفضِّلُ السير في طريق معبدة، والصحابة لم يكونوا خارج الفطرة البشرية، ومع ذلك صبرت على شيءٍ من العذاب، حتى بدت الرغبة في إنهاء عاجل لهذا الواقع المؤلم، ودعاء النبي صلى الله عليه وسلم، هو العلاج الأفضل، والحلُّ الأسرع، لكنَّ المنهجية الجديدة التي ثبتها رسول الله صلى الله عليه وسلم، جاءت لتغير تلك الطبيعة البشرية؛ فترى حينها أن الراحة في الحركة؛ لنشر دعوة السماء، وأن الغنى في التضحية والعطاء، وأن السلامة هي نقاء الفكر من شعوذات الأشقياء.
كان ردُّه صلى الله عليه وسلم يحوي إشاراتٍ قاسيةً، لكنها كانت ضرورية؛ لإيقاظ الحالة الشعورية، تهيئةً للنفس المؤمنة أن الطريق عسيرة، والعقباتِ كثيرة، فمن اختارها فليعلم أنه لا إيمان بلا فتن. قال تعالى: "الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ" (العنكبوت: 1-3)، ولا جنة قبل البأساء والضراء والزلزلة، قال تعالى: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" (البقرة: 214).
إنَّ هذه الحالة من الصدمة الحضارية التي ينقلها لنا خَبَّابٌ رضي الله عنه هي الصدمة ذاتها التي تعرَّض لها الشعب الفلسطيني، كان شعباً آمناً مطمئناً، فَسِيقت إلى أرضه أَوشَابُ اليهود، يزعمون أن الله أورثهم الأرض المقدسة، فاعتدوا على الحرمات بالقتل والتدمير، فكان ذلك شديدَ الأثر في نفوس الفلسطينيين، فلعله لم يخطر ببال العامة أن يعتديَ شعبٌ على آخر، فيخرجَه من أرضه وماله، وبدعم العالم الغربي وتأييده، وبمساندةٍ من أنظمةٍ عربية.
صدمةٌ سبقت طرده، وصاحبت تهجيره من أرضه، فقاومها الشعب الفلسطيني سلمياً وعسكرياً، ومع عظمة ذلك التصدي للعدوان الصهيوني، إلا أنه ظلَّ قاصراً عن ردع المشروع الصهيوني، ذلك أن المقاومة الفلسطينية كان ينقصها التربية الإيمانية، أو التربية الجهادية في بعض الأحيان، وحالت الظروف الطبيعية دون ذلك في أحيان أخرى. فعلى سبيل المثال، لم يكن للشعب الفلسطيني كيان يحافظ على النصر، الذي تحقق باستعادة قرية القسطل عام 1948، ويتداخل مع هذه العوامل الخذلان العربي والإسلامي الرسمي.
ثورات الماضي والحاصر:
لا بد من التفريق بين ثورات الماضي، والثورات المعاصرة، فمع عظمة الثورات في عشرينيات القرن الماضي وفي الثلاثينيات والأربعينيات منه، إلا أن كل واحدة منها انتهت، دون أن تسلم التي تليها شيئا من إنتاجها العسكري على الأقل، أما الانتفاضات المعاصرة، فتميزت بالانتقال السلس للتجربة الفدائية. ورغم أن انتفاضة الأقصى عام 2000، قد استعادت القوة العسكرية من الصفر تقريبا، إلا أنها تطوَّرت تطوُّراً مذهلا، ونجحت في مراكمة الخبرة الميدانية، وقوة السلاح، وهذا يعد إنجازاً عظيماً للمقاومة. أما الثورة التي انطلقت من خارج فلسطين في ستينيات القرن الماضي، فعلى أهميتها وبسالتها، غير أن انطلاق ثورة من داخل الأرض المحتلة أنكى للعدو، وأقرب من الجماهير.
إذن هي ضلالة من ضلالات الباطل، الذي لا يقبل أن يبقى الحق إلى جواره؛ لأنه سيفضح سوءته التي يحاول طول الوقت أن يخفيها، فكان إخراج النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من مكة المكرمة، وكان ذلك هو نهج الاحتلال الإسرائيلي، فأخرج الشعب الفلسطيني من أرضه، لكنه لن يغير الماء والهواء والتراب، فكل ذلك يشهد بأن الأرض منه براء، تبغضه وتلعنه، وسيأتي يوم وتلفظه.
أُخرج الشعب الفلسطيني، وبقيت مجموعات منه، وهؤلاء هم الذين يعيشون في أرضهم، وظلوا رغما عن العدو، فسعى إلى تذويبهم، فما استطاع؟ وما العلة أن يهاجر نفرٌ، ويبقى آخرون؟ فقد أُخرج إبراهيم عليه الصلاة والسلام من أرضه، ورُبِّيَ موسى عليه الصلاة والسلام في بيت عدوه الأول، فكان خيرَ مُطَّلِعٍ على أسرار عدوه، وكذلك أبناء هذا الشعب، فهم أعرف بعدوهم من غيرهم، يعرفون نقاط قوته ومواطن ضعفه، وسيكون لهم دور في رحلة الخلاص.
إنَّ هذه المرحلة قد أخذت فترة من الوقت، فآثار الصدمة تختلف من شخص لآخر، وقد استمر ذلك الحال فترة من الزمن، حتى ذهب أثر الصدمة، وأدرك الناس مبرراتِ هذه الأطراف ودوافعها كافة: اليهود، والعالم الغربي، والأنظمة العربية. ولقد أيقن الشعب أن الواقع الحياتي ليس كما الأحلام والطموحات، التي ترسمها لك مخيلتك. إنه صراع أبدي بين حقٍّ وباطل، ولن تنتهي هذه المعركة، إلا بانتهاء الوجود البشري على هذه الأرض.
وفَهِمَ الناس كما فَهِمَ خبابٌ وصحبه، أن من حمل اللواء، فستعترضه السهام واحداً بعد واحد، يكاد كلٌ منها أن يفتك به، فإذا ظن أنه نجا من آخرها، أتاه آخر، حتى يغدو من اجتاز تلك المحطات، لبنة قوية في بنيانٍ متماسك.
بدأت الصدمة قوية جداً ببداية التعذيب، ثم بدأت تتلاشى شيئاً فشيئاً، حتى انتقلت الجماعة إلى المواجهة الواعية.
إن الرحمة النبوية، المستمدة من رحمة الخالق جلَّ وعلا، لم تقتصر على تهيئة الأمة لتلك الصدمة الحضارية فحسب؛ بل التبيان للأمة أنها معركة معلومة النتائج.. معالم طريق واضحة، لن يعلوَ فيها كافر على مؤمن، ولن يدومَ للضلال مقام، فيذكر أن المستقبل لهذا الدين، لكن ذلك مرهون بعمل وتضحيات، هو أمر الله قادم لا ريب فيه، ولا داعي لعجلة لن تغير من واقع الأمر شيئا.
إن لهذه المرحلة، هدف واحد عظيم، هو إنقاذ المجتمع من آثار الصدمة، والعمل على ألا تطول فترتها، وذلك من خلال تذكير المؤمنين بسنن الله تعالى، والتذكير بالنماذج الجهادية في الأمم السابقة، وفي هذه الأمة، والمجتمع الذي نعيش.