بتوقيع الاتفاق بين الجانبين التركي والأمريكي توقف إطلاق النار ولو بصورة مؤقتة في عملية
نبع السلام، والتي أطلقها بها "الجيش المحمدي" التركي شمال الأراضي السورية، والتي كان من أهم أهدافها إقامة حزام أمني على الحدود السورية بعمق 30 كيلومترا وبطول 440 كيلومترا، لإبعاد مليشيات PKk وPYD الكردية المتهمة بالإرهاب والتي كانت مصدر إزعاج دائم للاتراك.
حاول
أردوغان قبل العملية مشاركة الجانب الأمريكي في تسيير دوريات في المنطقة، ولكن كعادة الأمريكان لم تكن لديهم جدية، بل كانت هناك مماطلة متعمدة في تنفيذ ذلك، وأكثر من ذلك هو تزويد هذه المليشيات الإرهابية بالأسلحة لتبقي الصداع المزمن لتركيا على حدودها.
لم ينتظر الأتراك كثيرا وكان القرار أن يتم اقتلاع أشواكهم بأيديهم وبدون مساعدة أحد، فكانت عملية نبع السلام في يوم التاسع من تشرين الأول/ أكتوبر، والتي قيل إنها تصادفت مع رسالة ترامب الوقحة جدا والتي تعمد تسريبها للإعلام ليظهر بمظهر الزعيم القوي في ظل صراع محتدم مع الديمقراطيين للإطاحة به.
وبعد عدة أيام من انطلاق العملية، وما بين تهديدات ترامب وعقوبات الأوروبيين بمنع تصدير السلاح إلى
تركيا، وفي ظل التصميم التركي، تم إيفاد نائب الرئيس الأمريكي لمفاوضات مارثونية مع الأتراك من أجل التوصل إلى حل يحفظ ماء الوجه بالنسبة لأمريكا، وخاصة بعد التسريب المتعمد من الأتراك لإحدى المحطات التلفزيونية بأن أردوغان قام بإلقاء رسالة ترامب في سلة المهملات.
ما حققته تركيا من هذا الاتفاق يعتبر نصرا عسكريا ودبلوماسيا مهما، فهو قد حقق لها كل أهداف عملية نبع السلام من وجود المنطقة الآمنة ونزع السلاح الثقيل من أيدي المليشيات الإرهابية، وتشجيع الكثير من اللاجئين السوريين والذين يعدون بالملايين داخل تركيا على العودة الطوعية إلى بعض مناطقهم المحررة شمال
سوريا.
الأمر المثير للشفقة في كل هذه الأحداث كان موقف الجامعة العربية، فهي استيقظت بعد غيبوبة مزمنة استمرت سنوات.
فهذه الجامعة لم يستفزها القصف الروسي للمدنيين في سوريا ولم يحرك مشاعرها التدخل الإيراني في لبنان، أما عن وجود قوت أمريكية في شمال شرق وشرق سوريا فالأمر لا يعني هذه الجامعة أو القائمين عليها، إنما يعنيهم فقط التدخل التركي في الشمال السوري. فأسرعت الجامعة إلى الانعقاد وأدانت العملية التركية، مع اعتراض بغض الدول، وهي قطر والصومال وحكومة الوفاق في ليبيا، بل إن هرمون الشجاعة ازداد وبصورة كبيرة فقررت رفع شكوي إلى مجلس الأمن ضد تركيا، مع أن الدولة صاحبة القضية وهي سوريا لم تتقدم إلى مجلس الأمن بأي شكوى. والمضحك المبكي أن سوريا والتي تقدمت جامعة الدول العربية نيابة عنها بالشكوى إلى مجلس الأمن؛ عضويتها مجمدة في الجامعة العربية ومنذ عدة سنوات.
توصلت تركيا للاتفاق مع الإدارة الامريكية وكانت جامعة الدول العربية هي الغائب غير الحاضر في هذا الاتفاق، أما الدولة السورية فهي لا حولا لها ولا قوة. اما ترامب والذي كان يهدد بتدمير الاقتصاد التركي والذي طلب من أردوغان أن لا يكون أحمقا، فقد خرج بعد المؤتمر الصحفي يكيل المديح لأردوغان ولشجاعته ولحكمته، مع أن أردوغان في بداية تشرين الأول/ أكتوبر هو نفسه أردوغان في منتصف الشهر، وإن الذي تغير فقط هو السياسة الأمريكية والتي احترمت القوي.
أما دول أوروبا، وخاصة فرنسا والتي ناصبت تركيا العداء من أول لحظات انطلاق العملية، ومن باب إدراك ما يمكن إدراكه بعد الاتفاق التركي الأمريكي، فقد دعت إلى قمة رباعية تضم تركيا وفرنسا وألمانيا وبريطانيا للنقاش في المستجدات في ما يتعلق بالعملية التركية ووقف إطلاق النار. ولكن يبدو أن حال الأتراك في هذا الأمر أننا لسنا بعجلة من أمرنا طالما حققنا كل أهداف العملية.
تثبت الأحداث يوميا أن العالم فقط يحترم الأقوياء. وما بين تهكم وسخرية ترامب من ملك السعودية في خطاباته وما بين لغة الاحترام التي فرضها عليه أردوغان فرضا، أتثبت الأحداث أن العالم لا يحترم إلا القوي صاحب السيادة على قراره، والمدعوم بانتخاب شعبه له والمتوج بقوة حربية تحمي قراره.