هذا الموقع يستخدم ملف تعريف الارتباط Cookie
لم يكن السيسي مبالغا قط حين أخبرنا أو كشف لنا بالأحرى منذ بضع سنين بأن الله خلقه طبيبا، وأن فلاسفة العالم الكبار (الذين لم يسمهم بالمناسبة) شهدوا له بذلك، فالشاهد أن ذلك التصريح لم يكن خدعة أو حيلة لتمرير قرارٍ أو سياسةٍ ما، وإنما كان بوحا ومصارحة بمكنان قلبه ووجدانه، فهو من دون شك يرى في نفسه كليما مخَلِّصا ملهما.
ولهذا شعرت بالخوف الشديد منذ ذلك الحين.
بيد أن المشكلة أنني مهما وطنت العزم على توقع أي تصريحٍ منه، مهما خلا من الكياسة والحصافة والحنكة، ومهما فاض بالجهل والاندفاع الغشوم، فهو لم يزل قادرا على إدهاشي ومفاجأتي. آخر ما أتحفنا به هو تحليله الثاقب للأسباب التي أدت بنا إلى حيث ما نحن فيه الآن من أزمة سد النهضة، حيث عزا ذلك لكون مصر ضَعُف موقفها في 2011 إبان الثورة، واصفا إياها في استعارةٍ مكنيةٍ مفضوحة بأنها "كشفت ظهرها وعرت كتفها".
لا تملك إزاء تصريحٍ مفعمٍ بمعاني الإثارة الرخيصة والتحرش والتلميحات الجنسية من إغراء وتجرؤٍ، وربما اغتصابٍ، سوى أن تسأل نفسك عن التكوين النفسي للسيسي، وما عساه يدور في ذهنه من خيالاتٍ وحقيقة ميوله، خاصة إذا تذكرنا أنه كان مسؤولا عن كشوف العذرية إبان الثورة، ما يدل على انشغاله بالعفة والطهارة والعذرية، وقبلها جسد المرأة، وإنني وإن كنت لا أزعم أنني فرويد أو يونج، إلا أنني بت على قناعةٍ بأن الكثير، إن لم يكن كل ما نراه ونعيشه، لا تستطيع مقاربته واستكناهه إلا باللجوء إلى علم النفس الاجتماعي. الأضحوكة أنه أغدق بذلك الفيض في"دورةٍ تثقيفية" من دورات القوات المسلحة، فأكرم بتثقيف وتأسيس كهذا للضباط، الذين نشؤوا قبل ذلك في ظل كامب ديفيد وأحاديث الشيخ الشعراوي كل جمعة.
المهم، متخطين الجانب الهزلي المهين في كلامه، فإنه في المقابل يضاف إلى سلسلةٍ من التصريحات والاتهامات المماثلة من أعضاء الحكومة والإعلاميين، حيث بات أسلوب النظام واضحا: إرجاع كل مناحي الفشل والتقصير إلى ثورة يناير (كانون الثاني)، واتهام الإخوان (ومن رائها قطر وتركيا) بالضلوع في مؤامرة، فما من كلبٍ ينفق أو تدهسه سيارة أو مجرورٍ يطفح إلا وتلك أسبابه، لا أن البنية التحتية مترهلة تنهشها العطوب، ولا أن هناك انعدام كفاءة بشع، يرزح على كل مرافق الدولة، التي صارحنا من قبل بأنها شبه دولة. لا يشكل سد النهضة استثناءً، فمن السهل الإلقاء باللائمة على ثورة يناير، أملا في عدم تركيز الناس في التفاصيل، مع العلم أن أي تدقيق، يذكرنا بأن السيسي يلجأ لهذا الإلهاء لينسينا أنه هو من قام بالتوقيع على اتفاق المبادئ في آذار/مارس 2015 مشرعنا بذلك موقف إثيوبيا، ومتنازلا عن حقوق مصر القانونية والتاريخية، بل قبل حرمان مصر من اللجوء للأمم المتحدة، إلا بموافقة إثيوبيا ثم ها هو يتفاوض فتتعثر المفاوضات. لم أسمع من قبل بطرفٍ يتفاوض على ما وقع عليه بالفعل، فهل من العجيب أن يتعنت الطرف الآخر.
أنا أعلم وأذكر بالطبع ذلك النصر الشرس المنتزع من أنياب الأسد، حين لقن السيسي رئيس الوزراء الإثيوبي القسم بالعربية، بأنه لن يؤذي مصر، ولكن ما العمل في هذه الدنيا اللعينة، حيث يحنث الناس بأيمانهم، ولنا أن نتصور مدى ألم السيسي إذ تكشف رئيس الوزراء الإثيوبي عن رجل غادر كذوب. ويبدو أننا من المفترض أن نتعاطف مع السيسي المغرر به ونتألم لألمه.
لا، ليست الثورة بمسؤولة، فمن ضيع حقوق مصر هو السيسي، الذي يندفع من دون دراسةٍ ولا معرفة. ما ضيع مصر هو انعدام الكفاءة وتصدر من لا دراية ولا علم لديهم، معتمدين على الارتجال، ويكفي هنا أن نذكّر بأن الثورة المصرية لم يسمها العنف، ولم تغرق في بحور الدماء، فهي على عكس الثورة الإيرانية مثلا، الأقرب في التاريخ والجغرافيا، حيث أُعدم قيادات الجيش وكثيرٌ من الضباط، ناهيك من التنكيل والتسريح، بل كانت سلمية تماما (ربما أكثر من اللازم)، وأن المؤسسة العسكرية الاستخباراتية لم تتأذ ولم تُمس، كما أن الفنيين والاستشاريين وكل أعضاء "المؤسسة" في الوزارات لم ينلهم شرٌ ولا سوء، ومن ثم فقد كان في مقدور من يقع في دائرة تخصصهم أن يتعاملوا معه، وبفرض أن ثمة هزة رجت الدولة المصرية إبان الثورة، فالشاهد أن السيسي يسيطر بقبضة من فولاذ منذ انقلب في تموز/يوليو 2013، فماذا فعل في ملف السد منذ ذلك الحين لإيقافه سوى الإمضاء والتفريط والطمأنة؟ أخيرا وهو الأهم، ألم يأن الأوان ليتوقف الساسة والمسؤولون عن الحديث عن مصر باعتبارها امرأة؟ أفهم أن يفعل ذلك الشعراء الغنائيون.
لا يا سادة، مصر ليست امرأة، وهي لا تتعرى في استعارةٍ من لغة الأزقة والملاهي الليلية والمواخير، بل مصر بلدٌ كبير وعريق، حافلٌ بالمواهب والقدرات، يعيش محنة ونكبة ترهل وإفقار، تسبب فيها في المقام الأول الحكم المتسلط المفرط، مفتقد الكفاءة طيلة عقود في استدعاء لأحلك وأحط الحقب المملوكية. بلدٌ حقيقي، لا تجمع عشائر وقبائل، يدفع ثمن استعصاءاتٍ وأزماتٍ تاريخية أضعفت تبلور طبقاتها وتمثيلاتها السياسية، أزماتٌ ليس هنا المجال في الدخول فيها، أوصلت إلى اضمحلال البدائل في صورة التنظيمات السياسية.
من المؤسف والمحزن أن يلجأ سياسي أو مسؤول ناهيك عن رئيس الجمهورية المفترض، للحديث عن مصر بصيغة الاستعارة والتشبيه، وكارثي أن يصفها بالتعهر، ولعل السؤال الأدق، أنه إن صح هذا الوصف المنحط، فمن الذي دفع بها إلى تلك الطريق ومن الذي قبض الثمن؟
(القدس العربي)